أبو دلامة لا يخشى الملامة

TT

شغفنا في الأيام القليلة الماضية على صفحات هذه الجريدة، وفي زاويتي هذه على الخصوص، بموضوع الروح الإنسانية التي كثيرا ما تسمو وتنتصر في أحلك المواقف الدامية من القتل والاقتتال. الحقيقة أن لأمتنا العربية الكثير من المواقف المشرفة في هذا الشأن، التي ترددت في بطون الأدب والفكاهة. سألوا رجلا: «لم لا تخرج مع الآخرين للغزو ضد الأعداء؟»، فقال: «والله لا أعرف أحدا منهم ولا يعرفونني، فمن أين وقعت العداوة بيني وبينهم؟».

من أظرف القصص التي وردت على هذا الصعيد ما ورد عن أبي دلامة. قالوا إن المنصور أمره بالسير لمقاتلة الخوارج. التجأ إلى سائر الحيل ليتفادى زجه في القتال حتى لم يبق له أي مخرج من ذلك، فطلب من القائد روح بن حاتم أن يعطيه دجاجة ورغيفين ليأكل قبل المبارزة ويموت شبعان بدلا من أن يموت جوعان. أعطاه ذلك فتقدم نحو قائد الخوارج ليبارزه. بادره أولا: «أتقتل من لا يقاتلك ولا يضمر لك شرا؟»، قال: «لا». فمضى أبو دلامة يحاوره: «هل كانت بيننا عداوة قط؟ أو عرفت من حالي ما يحفظك علي؟ أو تعلم بين أهلي وأهلك وترا؟»، قال: «لا والله». قال: «فدعني آكل زادي أولا». فتركه يأكل دجاجته، ثم دعاه لمشاركته فيها ليرى العسكر ذلك فيعلموا «أن السلام خير من الخصام». ففعل.

قالوا، تقدم إليه أبو دلامة حتى تلامس عنقا فرسيهما وجمعا أرجلهما على معرفتيهما والناس يرونهما يأكلان معا فيغلبهم الضحك والدهشة.

ولا عجب في ذلك من هذا الشاعر الظريف وهو صاحب هذه الأبيات التي أنشدها للقائد:

إني استجرتك أن تقدم في الوغى

لتطاعن وتنازل وضراب

فهب السيوف رأيتها مشهورة

فتركتها ومضيت في الهرّاب

ماذا تقول لما يجيء وما يرى

من واردات الموت في النشّاب؟

يمثل أبو دلامة في رأيي النفسية العربية الحقيقية وليس كل تلك القصائد الديماغوجية من المتنبي وأبي تمام وسواهما من تجار العنتريات. القول بأن العرب أمة حرب وضرب وقتال من الخرافات التي ليس لها أي أساس. هذا موضوع خضته بكل إسهاب في كتابي «نحو اللاعنف». لا أدل على ذلك من تسميتهم للحرب بالكريهة. الإيمان بهذه الخرافة جرّنا إلى كثير من المطبات والنكسات في هذا العصر الحديث نتيجة هذا الوهم الذي وقع فيه الكثير من زعمائنا، وعلى رأسهم صدام حسين، فزجوا بنا في حروب ومعارك فاشلة، بل ومخزية. إننا قوم نحب الحياة ونكره الموت، ونحب الحب ونصبو إلى المتعة في راحة وسلام. لا نحتاج سوى أن يتركنا كل هؤلاء الدجالين والديماغوجيين الذين يتمتعون بحياتهم ويطلبون منا أن نجود بها بدلا من أن ننصرف لبناء مجتمعنا وحضارتنا ورفاه شعوبنا في أمن وسلام.