الجمعـة 27 صفـر 1431 هـ 12 فبراير 2010 العدد 11399 الصفحة الرئيسية
 
هاشم صالح
مقالات سابقة للكاتب    
إبحث في مقالات الكتاب
 
نحو علم الأصوليات المقارنة

كان شارل ديغول يقول: مشكلة الفرنسيين هي أنهم يعتقدون أن لكل مشكلة حلا. ولكن ينبغي أن يعلموا أن هناك مشكلات لا حل لها في المدى المنظور. ينبغي أن ننتظر حتى تنضج الظروف، أو تستوي الطبخة، كما يقال بالعامية، لكي نجد لها حلا. الرجل الذي يقول هذا الكلام يعرف عما يتحدث. فقد حل للفرنسيين مشكلاتهم مرتين، وأنقذهم من الدمار ودلهم على الطريق. ولكن طالما شتمهم وتأفف منهم في مجالسه الخاصة قائلا بنفاد صبره المعهود: مشكلتي هي أن الفرنسيين حمير أو بقر. ولا أستطيع أن أفعل شيئا. فإذا كان الفرنسيون حميرا فما بالك بنا نحن؟ لكن هذا لم يمنعه من أن ينقذهم مرتين كما قلنا: المرة الأولى أثناء الحرب العالمية الثانية، والمرة الثانية أثناء حرب الجزائر الرهيبة التي غطست فيها فرنسا ولم تعد تعرف كيف تخرج منها. وبعدئذ صنع منهم أمة متقدمة واثقة بنفسها ثم رحل.

ولكن ماذا يمكن أن نقول عنا نحن العرب؟ يبدو أن كل مشكلاتنا لا حل لها، لا في الوقت الحالي ولا في المدى المنظور. كل شيء معلق ومؤجل ومحتقن حتى ينفجر انفجارا. وعندئذ نصرخ ونولول ونثور متفاجئين: يا إلهي لماذا حصل لنا ما حصل؟ من أين جاء كل هذا؟ ولا أحد مستعد أن يراجع نفسه، ولو للحظة، لكي يفتش عن السبب الحقيقي أو عن مسؤوليته في السبب. دائما الحق على الجهة الأخرى أو الطائفة الأخرى، أما هو فبريء كل البراءة. كيف يمكن أن تتقدم أمة بهذه العقلية؟

من المشكلات التي لا حل لها في المدى المنظور مشكلة التنوير الديني، انطلاقا من مشكلة السرطان الطائفي أو المذهبي الذي يكتسح العالم العربي حاليا. والسبب هو أن التنوير صيرورة طويلة، معقدة، بطيئة، صعبة. فأنت لا تستطيع بين عشية وضحاها أن تحل التفسير العقلاني للدين محل التفسير التقليدي الموروث الراسخ الجذور منذ مئات السنين. لا تستطيع أن تقتلع الأفكار القديمة من عقول الناس اقتلاعا. لا ريب في أن تجديد برامج التعليم وإقامة مؤتمرات الحوار بين الأديان والمذاهب شيء مفيد وضروري. لا ريب في أن كسر الجدران النفسية، التي تفصل بيننا على اختلاف طوائفنا ومذاهبنا بفضل هذه الحوارات واللقاءات المحلية أو العالمية، شيء في غاية الأهمية. وينبغي أيضا نشر الكتب العلمية والتاريخية والفلسفية عن الدين على أوسع نطاق، لكي تواجه التأثير الكاسح للكتب الصفراء التي علاها الغبار وتكرس المواقع القديمة. لكن هذا يستغرق وقتا حتى ينغرس في الأرض العميقة ويحدث تغييرا حقيقيا في العقليات. تحضرني بهذا الصدد قصة جرت للمؤرخ الفرنسي الشهير إيمانويل لوروا لادوري، فقد صادف في شبابه الأول أن عينوه في مدرسة بأحد الأقاليم التي تنتمي إلى الأقلية البروتستانتية. وفي أحد الأيام نسي نفسه وهو يتحدث عن تاريخ فرنسا فصدرت عنه هذه العبارة: كان الزنادقة البروتستانتيون.. وفورا حصل هرج ومرج في الصف لأن أغلبية الطلاب ينتمون إلى هذا المذهب الذي تحتقره أبناء الأغلبية الكاثوليكية. وعندئذ طلبه المدير إلى مكتبه وقال له: يا أخي العزيز هناك أشياء لا تقال. إني أعرف أنها هفوة لسان صدرت عنك، ولكن راقب نفسك جيدا في المرات القادمة. فهناك جروح قد لا تندمل حتى بعد مرور مائتي سنة عليها. لا ريب في أن فرنسا تجاوزت الحروب المذهبية المدمرة، لكن الجرح لا يزال طريا عند البعض.. ويقال إن عضو الأكاديمية الفرنسية أندريه شامسون ظل مجروحا من قصة الاضطهاد التي تعرض لها آباؤه وأجداده على مدار القرون من الأغلبية الكاثوليكية. نقول ذلك على الرغم من أنه تقلد أعلى المناصب في الدولة الفرنسية، ولم يعد هناك أي أثر للاضطهاد المذهبي في فرنسا المعاصرة.

خطرت على بالي هذه الأفكار بعدما سمعت عن أحداث طائفية مؤلمة في مصر، أو بعد طرد إمام جامع أصولي من فرنسا يبث الأفكار المتعصبة والبالية في أوساط جاليتنا. ولكن إذا كانت فرنسا تستطيع أن تحمي نفسها من الأفكار الأصولية المتعصبة، مسيحية كانت أم إسلامية، إلا أن بلداننا لا تستطيع لسبب بسيط: هو أن هذه الأفكار تمثل لدى البعض يقينيات مطلقة لا تقبل النقاش.

في الواقع إنه من الظلم لنا، بل إنه لشيء تعجيزي، أن يطالبونا بتحقيق ما أنجزته أمم متقدمة قوية، صاعدة على مدار ثلاثمائة سنة متواصلة. نحن عاجزون ضمن الظروف الحالية عن مواجهة المد الطاغي للأصوليين السلفيين. التنوير لا يزال أقلية حتى في أوساط المثقفين، فما بالك بعامة الشعب؟ ولكن من المفيد أن ننظر في تجربتهم ليس من أجل تقليدها حرفيا، بل من أجل المقارنة واستخلاص بعض الدروس والعبر. فآليات التعصب الديني تبقى واحدة في كل الأديان. أعتقد شخصيا أن هذه المقارنة قد أصبحت ضرورية لإضاءة الوضع المعقد الذي تتخبط فيه المجتمعات العربية حاليا.

نقول أننا نقارن أنفسنا بأمم متطورة حلت المشكلة الطائفية منذ زمن طويل وحققت قفزات كبيرة في مجال الحضارة والتمدن والرقي. وهذه الدراسة المقارنة هي ما كنت قد دعوته سابقا بعلم الأصوليات المقارنة أو علم التنوير المقارن، لا فرق. وقد آن الأوان لتأسيسه في العالم العربي.

> > >

التعليــقــــات
محمد يسار، «المملكة العربية السعودية»، 12/02/2010
إنني أصلي من أجل أن يتمم الله للمفكر الكبير الأستاذ هاشم صالح نشر الفكر التنويري في جميع أقطار الوطن العربي والإسلامي. فنحن بحاجة ماسة إلى استيعاب كل ما يساعدنا على فهم أفكار التسامح واحترام الآخر والاحتكام إلى القوانين التي تقدس حقوق الإنسان.
نعم نحن ما زلنا نعيش الآن -مع الأسف- مرحلة العصور الوسطى التي تجاوزتها أوروبا منذ ثلاثمئة عام تقريباً.فالتنوير لا يزال أمامنا بينما هو عند الغربيين ورائهم. ولن نستطيع التقدم إلا إذا تمكنّا من غربلة التراث ونقده نقداً تاريخيا صارماً تماماً كما قال ويقول أستاذنا الكبير هاشم صالح.
فتصنيم التراث وتقديسه وتكراره واجتراره ليس إلا جناية عظيمة وظلماً كبيراً لنا ولماضينا ولن يعود علينا إلا بالعواقب الوخيمة. وما الإرهاب وأرباب الكراهية إلا نموذجا من تلك النتائج التي سببتها منهجية القرون الوسطى التي تحقّر الحاضر وتتخوف من المستقبل.
المحامي أحمد عرّاد - مملكة البحرين، «البحرين»، 12/02/2010
صحيح ان التنوير و نبذ الطائفية والعنصرية هي من صميم فئات من الشعب التنويريين لأجتثاثها من عقلية الدول العربية والاسلامية و لكن الا تلاحظ معي بأن حكوماتنا هي من تأجج الطائفية في أوطاننا بغية الهاه الشعوب في أمور غيبية حتى يفضى لهم الكرسي و السلطة فلو قامت الحكومات العربية كما قام به شارل ديغول لما وجدنا مثل هذه المشكلة تعترينا يمنة و يسرة و في كل المجالس والمنتديات و المدارس و حرم الجامعات و ما بين الاسرة الواحدة اذ اننا بحاجة الى تدخل رؤساء الدول العربية للقضاء على هذه المشكلة تماماً كما فعل ديغول و لكن يبدو ان المسؤولين العرب راغبين في استمرارية هذه المشكلة و صيرورتها على الواقع حتى لا يصبغون على أنفسهم تنويرين و علمانيين و بالتالي يغضبون البعض ممن يري نفسه ينتمي الي العصور المظلمة و لهذا لا بد من رؤساء و حكام تنويريين لكن ينقذوا ما يمكن انقاذه من سيطرة المتخلفين والمؤججين للطائفية و القبلية و العنصرية و الشللية البغيضة التى تزرع الكراهية فيما بين الشعب الواحد بغية اظهار ولاء زائف فلعمري لم أسمع ببيان واحد صادر عن مجلس الجامعة العربية يتحدث عن نبذ الطائفية و العنصرية المحلية.
mohammad hezam، «فرنسا»، 12/02/2010
الاستاذ هاشم
لفد بدات المقالة بايراد الحل: نحن نحتاج الى رجال كالجنرال ديغول. ان مشاكلنا الحالية سببها الانظمة العربية الحالية وليست الاصولية الدينية التي هي وليدةممارسات هذة الانظمة.نحن نتحدث عن الاصولية منذ بضع سنين بينما الانظمة العربية تعود مماراساتها الى عشرات السنين اي بعد الاستفلال. انت مقيم في فرنسا وتعرف ان المسؤولين الكبار في هذا البلد لايصلون الى مناصبهم بشكل عام الا بعد تاريخ حافل بخدمة بلدهم اما في بلادنا فحدث ولاحرج ويحضرني قول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

 
ارسل هذا المقال بالبريد الالكترونى   اطبع هذا المقال