«انتظارات الشباب»: تجربة لبنانية برسم الشباب العربي

TT

لا اعرف لماذا يفرض موضوع معين نفسه عليّ بين الفينة والفينة، وكأنه هو الذي اختارني لاكتب فيه ولست انا الذي اخترته لاكتب عنه؟ في مطلع العام 2002 شدتني تجربة مجموعة من الشباب اللبنانيين الذين باشروا في العام 1995 حوارا فيما بينهم اسسوا في اثره حركة اطلقوا عليها تسمية «انتظارات الشباب».

في البدء لفتتني التسمية التي تخرج عن المألوف، فانتظارات هي جمع انتظار بمعنى الترقب والتوقع والتأمل والمعاينة، كما يعني الانتظار اشخاصا متجاورين ينظرون بعضهم الى بعض، كما جاء في معجم مقاييس اللغة. فكلمة «انتظارات» مبتكرة وغنية بالرموز والمعاني.

انطلقت هذه التجربة من انطلياس، في ضواحي بيروت الشمالية، اثر نداء وجهه «مركز الدراسات والابحاث المشرقية» بقصد تجديد العيش المشترك في لبنان، والتأكيد بأن صيغة العيش المشترك هي القاعدة وخلافها هو الاستثناء او الشواذ.

ولبى النداء شباب من مختلف المذاهب والطوائف والمناطق والعقائد للتعارف بعد قطيعة وانقطاع فرضتهما حرب لبنان، وللتدرب على ممارسة الديمقراطية بعد ان تعودوا ممارسة الحرب والاقتتال. ورمت هذه الحركة الى اطلاق الحوار بين الشباب اللبناني بقصد ان يتعرف الواحد على الآخر، وقد لاقت نجاحا تخطى كل التوقعات.

انضوى تحت لواء «انتظارات الشباب» مسلمون ومسيحيون من دون ان يتخلى المسلم عن قرآنه ولا المسيحي عن انجيله في قناعة راسخة بأن ما يجمعهم هو الوطن، وخصوصا الحلم بوطن يقوم على العيش المشترك والحريات وحقوق الانسان.

صحيح ان السياسيين اللبنانيين كانوا قد تغلبوا في الطائف على المتاريس العسكرية فالتقوا حول وثيقة الوفاق الوطني في العام 1989 وقرروا وقف الحرب والغاء الميليشيات، لكن الشباب اللبناني تغلبوا في انطلياس على الحواجز الطائفية، وتوافقوا على الحوار فيما بينهم على اساس اعتراف الواحد بالاخر وبحقه في ان يكون مختلفا، فنشأت فيما بينهم فسحة صداقات متينة ومساحة حوار ديمقراطي مفتوح.

يقول شاب مسلم شارك في اللقاءات انه اكتشف في حواره مع الشباب المسيحيين «الجزء الآخر المكمل له، وانا اعتز به على الرغم من انه نقيضي». وما قاله الشباب المسلم يردده الشباب المسيحيون في محاولة لتخطي النظرة التقليدية لمفهوم العيش المشترك وبلورة مقاربة مستقبلية جديدة.

التقليديون يرون ان العيش المشترك هو هدنة مسلحة او سلام بارد بين الطوائف. وقد قرأت في هذا السياق كتابا اسرائيليا صدر حديثا تحت عنوان «حلمك هو كابوسي» استنتجت منه انه ما دام الاسرائيلي لا يعترف بالفلسطيني ويرى ان ما يحلم به هو كابوس له، فإن النزاع العربي ـ الاسرائيلي مستمر الى ما لا نهاية. العيش المشترك يفترض ان يكون حلم الواحد مقبولا من الاخر وليس كابوسا للاخر، فتتلاقى الاحلام في وطن مشترك. هذه هي المقاربة المستقبلية التي يقدم عليها «شباب انتظارات»: ان يحلموا معا بوطن للجميع، خلافا للمشروع الاسرائيلي النابع من الرغبة في التنكر للآخر والخوف منه وفق نظرية الفلسفة الوجودية التي ترى في «الآخر جحيما»، كما ادعى الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر.

والواقع ان الآخر ليس «الفردوس» لكنه ليس بالضرورة «الجحيم». وقد اظهرت التجربة اللبنانية ان العيش المشترك في لبنان حقيقة معيوشة لا تقبل الجدل، وان صياغة هذه الحقيقة في مؤسسات داخل الدولة ممكنة، لكنها تتطلب الكثير من العناية الفائقة. فالعيش المشترك يبلور هوية لبنانية تتعدى «الأنا» الاسلامية و«الأنت» المسيحية لمقولة «النحن» الذي هو لبنان. ولا يمكن التوصل الى الهوية اللبنانية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين الا عن طريق واحدة هي طريق التغيير الديمقراطي والتغيير الديمقراطي هو مشروع برسم المستقبل.

ويلتقي الشباب على مشروع التغيير من دون السعي لان يغير الواحد الآخر. فقد اقتنع «شباب انتظارات» ان العيش المشترك يفترض تقبل الآخر. لكن تقبل الآخر لا يفترض التشابه او التماثل، وكل محاولة لازالة الاختلاف بالاكراه هي مشروع حرب اهلية جديدة. الوحدة الوطنية لا تعني الغاء التنوع الوطني، بل العكس هو الصحيح، فالتنوع الوطني اذا ما احسن استخدامه هو اثراء للوحدة الوطنية. التنوع هو الحياة، وبقدر ما يكون التنوع محصنا بقدر ما تكون الوحدة حية. الوحدة من دون التنوع فيها الكثير من القمع والجمود. اما التنوع من ضمن الوحدة فهو الذي يولد الاوطان المتحركة والقابلة للحياة.

ولقد نظم الموسيقار اللبناني منصور الرحباني نشيد «انتظارات الشباب» فأسماه «موعدنا مع التغيير» وقد وعى الشباب اللبناني ان التغيير الحقيقي يتم عبر الحوار الديمقراطي وليس عبر الاكراه والعنف مهما تكن المبررات والاشكال. العنف يولد العنف وكثيرا ما يشد بالمجتمعات الى الوراء. اما التغيير الديمقراطي فهو ثقافة تدفع بالمجتمعات الى الامام. هذا ما يحتاجه الشباب العربي والمجتمعات العربية.

ولا يخفى على احد ان التغيير يبدأ بالانسان قبل ان يتقونن في المؤسسات. فالتغيير يتطلب تضافر مجموعة من الارادات الحرة في سبيل الخروج من مستنقع الماضي والنظر الى آفاق المستقبل. وانتظارات هي تلاقي ارادات حرة بهدف تغيير الامر الواقع والانتقال من مفهوم العيش المشترك البدائي الى مشروع العيش المشترك العصري، فيتحول النموذج اللبناني رسالة تحتذى في الشرق الاوسط والعالم.

غير ان اللبنانيين كثيرا ما لا يرتقون في الممارسة الى مستوى رسالة لبنان في سلوكهم المعتاد، ولو فعلوا لكان لبنان في افضل حال، ولكانت الصيغة اللبنانية فرضت نفسها حلا لكل النزاعات الاثنية والدينية والقبائلية في العالم.

ان ادارة التنوع في المجتمعات التعددية تحتاج الى دراية وحكمة اكثر مما تحتاجه ادارة المجتمعات الاحادية. ولا حاجة في المجتمعات الاحادية الى انظمة مركبة ومعقدة، لكن الانظمة التعددية تتطلب نماذج فريدة من نوعها تتلاءم مع خصوصيات الشعوب.

ان لبنان هو البلد الوحيد في العالم حيث ترى فيه المسيحي يدخل الى الجامع والمسلم الى الكنيسة. وقد بات الاسلام جزءا من تراث المسيحيين اللبنانيين، والمسيحية جزءا من تراث المسلمين اللبنانيين لدرجة ازعم فيها ان مسيحيي لبنان غير مسيحيي الغرب، ومسلمي لبنان غير مسلمي باقي الدول العربية والاسلامية.

ليت تجربة الشباب اللبناني في العيش المشترك تنتقل الى الشباب العربي الذي يحتاج اكثر ما يحتاجه الى التغيير الديمقراطي والى ثقافة الحوار والقبول بالآخر ويتراءى لي ان العيش اللبناني المشترك هو نقطة الضوء في النفق العربي المظلم. وأدعي ان كل الدول العربية تحتاج الى حركة «انتظارات عربية» ما فيستحق الشباب العربي الديمقراطية التي يتوقون اليها.

ولا بد من التمييز بين ديمقراطية العدد التي تسود في المجتمعات الآحادية وديمقراطية التوافق التي تحتاجها المجتمعات التعددية. فالعدد ليس هو الاساس في المجتمعات التعددية خلافا لما هو الحال في المجتمعات الآحادية. منطق العدد شرعي حيث لا توجد مشكلة اقليات، ويمسي غير كاف ويحتاج الى الديمقراطية التوافقية حيث تبرز مشكلة الاقليات. واذا ما طبقنا منطق العدد في المجتمعات التعددية نكون كمن يهدد الوحدة الوطنية عن طريق تسلط فئة على فئة مما يؤدي الى الاحباط والانكفاء او الحرب الاهلية.

وفي ادبيات وحوارات «انتظارات الشباب» اكتشفت ان معظم المشاركين من المسلمين يوافقون على ان يكون رئيس الجمهورية اللبنانية مسيحيا ومارونيا، وعلى ان تكون الديمقراطية المعمول بها هي الديمقراطية التوافقية، وليس ديمقراطية العدد، وفي هذا الكثير من الحكمة والوعي والعدل والاعتدال.

ويشير المسيحيون الى ان رئيس الجمهورية الماروني هو الدليل الذي لا يرد على ان لبنان هو جمهورية التوافق بامتياز، ومارونية رئيس الجمهورية هي الحجة الدامغة التي تثبت بأن في الاسلام اعتدالا. رئيس الجمهورية المسيحي في دولة عربية يدل على ان العروبة تختلف عن الاسلام، وفيها نفحة من الديمقراطية.

والديمقراطية هي الوديعة الضائعة عند العرب. عسى «انتظارات الشباب العربي» يدفع بالمجتمعات العربية الى الاعتراف بالآخر وتأسيس نظام الحريات والحفاظ على حقوق الانسان.

ان المجتمعات العربية تحتاج الى حركة مشابهة لحركة «انتظارت» اللبنانية، على طريق الديمقراطية التي اتوقع ان تشكل النظام العربي الجديد في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين.