العراق: صراع الدولة وصراع الهوية

TT

يرى غرامشي ان الدولة تبنى على تحالفات اجتماعية تتحصل لها الغلبة في الصراع الاجتماعي ـ السياسي ضمن حدود جغرافيتها فتبني بعد ذلك جهازها القمعي الذي يوفر لها قدرة احتكار «القمع الشرعي» الداخلي ولكنها لا بد ان تبني ذلك على عنصر اخر هو الهيمنة الادراكية، اي ايديولوجيا وهوية الدولة. ليست هناك دولة لا تقوم على نسق من الافكار المعيارية التي تتحدث عن الخطأ والصواب وتؤسس لنسق اخلاقي يحكمها وبالتالي عندما تكون الدولة هشة او في طور البناء والتكوين، يغيب عن المجتمع فهم محدد ونهائي لما هو خير وما هو شر، وبالتالي للصواب والخطأ.

لقد خضع العراق في السنوات الاربعين الاخيرة لهيمنة تحالف عشائري ـ عسكري يستمد مركز قوته من الحيز الاجتماعي الممتد غرب نهر الفرات باتجاه البادية الغربية، وحكمته المعايير الاخلاقية المشتقة نوعا ما من التراث الاجتماعي السائد في تلك المناطق وتمثلت بهيمنة المفهوم «القبلي» لـ«العروبة» والنزوع الى تقديس القوة المتأتي بدوره من الحضور القوي للاخلاقيات البدوية، ويمكن لمن يريد مزيدا من الاستفاضة ان يطلع على التحليل الاجتماعي العميق الذي يقدمه علي الوردي للمنظومة الاخلاقية المهيمنة لدى العشائر العراقية.

بانهيار هذه الدولة بدأ صراع جديد يظهر في العراق بين مختلف المكونات الاجتماعية باتجاه بناء الدولة الجديدة، وهو صراع هائل وديناميكي وأحيانا مأساوي مع هيمنة الثقافة العنفية على مختلف تكوينات المجتمع العراقي. الصراع على بناء الدولة هو في جوهره صراع على هويتها، ومن يكسب هذا الصراع هو في النهاية سيكون الاقدر على تحديد ايديولوجية الدولة ومن ثم «هويتها». اردت من هذا التحليل ان اذهب الى مديات اعمق من الصياغات المختزلة التي يحفل بها الاعلام العربي والجدال العربي السائد حول الاوضاع في العراق والتي تم بها اختزال كل شيء الى مفاضلة سمجة وممجوجة بين النظام السابق والنظام الحالي تجاوزا على حقيقة ان «النظام الحالي» هو في طور التشكل وان هذا التشكل يحدث في ظل ظرف تاريخي فريد من نوعه عناصره تقوم على ثلاث مفارقات: الاولى ان سقوط النظام السابق تم عبر التدخل العسكري المباشر لقوة اجنبية تريد ان تكون لها كلمة حاسمة في شكل العراق «الجديد»، وثانيهما ان عملية بناء «الدولة» الجديدة تحدث في ظل انكشاف اعلامي غير مسبوق تاريخيا حيث اصبح كل شيء في العراق مرئيا وقابلا للمعالجة الاعلامية بعد زمن طويل من هيمنة «جمهورية الصمت» وحيث بات بإمكان وسائل الاعلام اسقاط متبنياتها المرتبطة بولاءاتها على معالجة الحدث العراقي في ظل صدفة التوافق بين الاعلام الغربي والعربي على التعاطي السلبي مع ما يحصل في العراق، وثالثهما ان الصراع الاجتماعي في العراق، ارتباطا مع السببين السابقين، لم يعد قابلا للاحتواء جغرافيا بشكل يجعله صراعا عراقيا بحتا، فقد اصبح مشروع بناء «الامة» و«الدولة» في العراق مشروعا مؤقلما ومدولا بامتياز. كل العنف المستشري في العراق هو صراع على تحديد هوية هذا البلد ولكل طرف قراءته المقترنة بانحداره الاجتماعي وباستيعابه للتاريخ وبامتداده الماوراء ـ حدودي، فالقاعدة تريد العراق امارة «اسلامية» ارتباطا بقراءتها الاممية المتشددة للاسلام وتوهمها نسخة فوقية له منسلخة عن الزمان والمكان، والاكراد يبحثون عن عراق يشكل اطارا مرنا لتركيبة متعددة القوميات تتحد وفق اسس رضائية لا قسرية تحفظ لكل جزء خصوصيته وهي قراءة تستمد جذورها من الخشية من تحول العراق المركزي المبني على هيمنة القومية العربية والممول من عائدات النفط الى نموذج اخر لقمع الاقليات القومية والتنكر لحقوقها، والتيار الصدري حتى مع تقلبه وتلكئه في بلورة فهم واضح غير مغرق بالايديولوجيا والعموميات يميل الى عراق «اسلامي» موحد وراء قراءة شيعية عناصرها خليط غير واضح المعالم من ولاية الفقيه وثقافة المهمشين وجذرها خوف متراكم من «عودة حكم الاقلية بما فيه من تكريس لتهميش الاغلبية والاحزاب الشيعية الاسلامية مثل الدعوة والمجلس الاعلى تمثل الى حد ما رؤية اكثر براغماتية قوامها عراق تعددي يتأسس على خليط من حكم الاغلبية وخصوصية المكونات ونوع من البناء المؤسساتي والدستوري الذي لا يسمح بعودة الديكتاتورية «السنية»، في حين ترى الاحزاب السنية الداخلة بالعملية السياسية ان هوية العراق يجب ان تكون موحدة وعربية بسبب خليط من الشعور بان الدولة المركزية خدمت السنة ومنحتهم ثقلا اجتماعيا كبيرا وان عروبة العراق توفر لهم الامتداد القومي ـ الطائفي اللازم لمواجهة ما يعتقدون انه ميل شيعي نحو ايران، في الوقت الذي تتبنى الاحزاب العلمانية رؤية قوامها عراق تعددي مؤسساتي يتنحى فيه الدين عن التدخل المفرط في النشاط السياسي مضعفا بذلك من النفوذ الاجتماعي الذي تستحصله الاحزاب الاسلامية عبر توظيف المقولات الدينية في مجتمع شرقي يحتل فيه الدين مكانة حاسمة.

بين كل هذه القراءات لا توجد واحدة مهيمنة اليوم، ولذلك لم يمتلك العراق بعد هوية واضحة لدولته، والمفارقة انه طالما تأخر عن امتلاك هذه الهوية صار هناك مجال لتدخل الاطراف الخارجية بشكل يعقد من طبيعة الصراع ويرهن مستقبل الدولة بالتسويات الاقليمية والدولية وبالتالي يطيل من زمن الصراع الذي اذا ما طال يستعصي ويغدو اكثر عنفا. يخطئ من يتصور ان الدولة الجديدة قد بنيت وانها تخوض صراعا لتحافظ على نفسها، فطالما لم يتم حسم قضايا رئيسية مثل العلاقة بين المركز والأطراف والشكل النهائي للمؤسسات ودور الدين في الحياة السياسية سيظل الصراع قائما ومحتملا ويظل احتدام المواقف وفرصة الآخرين للتدخل كبيرة. ومع احتدام الصراع على الهوية تتراجع اولوية الديمقراطية لان التاريخ يعلمنا بان الدولة سابقة على الديمقراطية، وان الاخيرة اطار ينظم العلاقات بين المؤسسات اكثر من كونها عنصرا مشكلا للهوية.