أخلاقيات الاقتصاد وأخلاقيات السوق

TT

افتتح منتدى دافوس أعماله لهذا العام تحت شعار غريب عليه بعض الشيء، وهو: «إعادة التفكير، إعادة التخطيط، إعادة البناء: أوضاع الحاضر والمستقبل». ومع أن الحاضرين هذا العام إلى المنتدى أقل ألقا، لناحية تمثيل الشركات والجهات المالية الكبرى؛ فإن المجموع يتجاوز الألفين، بينهم مئات من الرؤساء والسياسيين السابقين والحاليين، ورجالات الإعلام والمجتمع. إنما الجديد كما سبق القول، ليس من حضر؛ بل في الشعار، وفيمن لم يحضر. والشعار أخلاقي وانضباطي، والذين لم يحضروا هم ممثلو الشركات الكبرى، والمؤسسات المالية العالمية، وإنما أرسلوا أو أرسل بعضهم ممثلين، آثروا الصمت وعدم الحديث، بينما كانوا في السنوات السابقة هم أفصح المتحدثين وأعلاهم صوتا!

ولـ«منتدى دافوس» قصة ذات شقين؛ الشق الأول يتعلق بمحاولة الأوروبيين في مطلع السبعينات أن تكون لهم ذاتية متمايزة عن الأميركيين. ثم جاءت حرب عام 1973 وإيقاف السعودية للنفط، فاحتاج الأوروبيون للنفط وللقوة الأميركية والنفوذ الأميركي، فدخلت الولايات المتحدة إلى المنتدى من موقع قوة، وصار المنتدى منبرا للدعوة لحرية السوق، والازدهار الرأسمالي، وبيئة للنقاش في ظل الدول الصناعية الكبرى الثماني. ثم انهار الاتحاد السوفياتي، واضطرت روسيا الاتحادية للحضور في موقع هامشي كأنما لتتعلم دروسا من الرأسمالية المنتصرة في كيفية إدارة اقتصاد السوق ورفاهياته. ثم في تسعينات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، صار منتدى دافوس رمز العولمة المنتصرة والقائدة. وأقبلت كبرى الشركات والمصارف على تمويله تمويلا باذخا، كأنما تريد منه ومن الحاضرين شهادة أخرى على النجاح الأسطوري لرأسمالية السوق، وأرباحها الخيالية. وبقيت لدى «دافوس» مشكلة «صغيرة» أو مشكلتان: مشكلة الصعود الاقتصادي لشرق آسيا، والصين على الخصوص، ومشكلة الثوران الإعلامي من جانب الشباب بأوروبا وأميركا اللاتينية ضد العولمة الرأسمالية الاستغلالية، وضد هيمنة الولايات المتحدة.

لكن الضربة شبه القاضية على منتدى الأثرياء بدافوس جاءت من حيث لم ينتظر أحد: من خلال الأزمة المالية العالمية التي ظهرت أول معالمها الانهيارية في قلب العالم الرأسمالي المعولم: الولايات المتحدة! وقد تبين منذ الشهر الأول للأزمة في خريف عام 2008 أن الانهيار يعود للاحتيالات وعدم الانضباط حتى ضمن معايير السوق، من جانب الشركات العقارية، ومن جانب البنوك التي تمول عمليات الاقتناء والمضاربات الكبيرة! واضطر الرأسماليون المهيمنون من أجل التعامل مع الأزمة - وقد انهارت شركاتهم ومصارفهم - للجوء إلى ذوي الملاءة والتقدم ومن يملكون موارد طبيعية أو تكنولوجية باقية، فصار الثمانية عشرين دولة، وما خرجت الحلول المقترحة عن إعادة تمويل الجهات المفلسة مع فرض رقابة صارمة عليها، وذلك لكي لا تضيع أموال الناس ضياعا مطلقا. ولا حاجة للمزيد من شرح المعالجات التي لجأت إليها الدول الصناعية الكبرى، فحتى الصين التي ما ضربتها الأزمة بنفس القوة، سارعت إلى ضخ أموال هائلة في السوق والتوسع فيها حتى لا يضرب الجمود والكساد اقتصادها أيضا.

ماذا يعني التحول في عناوين منتدى دافوس وشاراته؟ لقد طرح المنتدى هذا العام عناوين أخلاقية إذا صح التعبير. إذ الواضح أن الخلل الذي أدى إلى الكارثة هو في جوهره خلل أخلاقي؛ لأن الذين يملكون ويحرصون على زيادة مقتنياتهم إلى ما لا نهاية، خاضوا في صفقات ومضاربات وهمية للحصول على أرباح سريعة وهائلة. وقد امتدت هذه العملية لأكثر من عقد؛ في حين كانت إدارات الدول والبنوك المركزية لا تفعل شيئا ملحوظا بحجة عدم التدخل في حريات السوق، وأن السوق تصحح نفسها، إلى أن صار ربع المال المتداول في السوق ناجما عن غسل الأموال، وتجارة المخدرات، والربع الآخر ناجما عن الأسعار الخيالية للعقارات التي كانت تباع في السوق أحيانا خمس مرات في اليوم وبأسعار لا تصدق! وهكذا تظاهر القائمون على منتدى دافوس بأنهم يدركون الأزمة الأخلاقية، التي ظهرت في تصرفات رجال الأعمال فأرادوا التذكير - كما قالوا - بالأصول الأخلاقية للرأسمالية!

وللأصول الأخلاقية للرأسمالية قصة طويلة موجزها، أنه إبان ازدهار حتميات الماركسية في مطالع القرن العشرين في أوروبا؛ ظهر تنافس بل صراع على تفسير «الظاهرة الرأسمالية» في القارة القديمة. فقد ربطها بعض المؤرخين الاقتصاديين بأوروبا وحرياتها وبإبداعات الإنسان الآري/الهندو أوروبي. فبرزت لها وظائف ثقافية وحضارية تتعلق بصورة أوروبا عن نفسها (=الحرية والتقدم)، وصورتها في العالم بما في ذلك تسويغات لاستيلائها الاستعماري على العالم بحجة الإسهام في تقدمه (خاصة في أفريقيا وآسيا!)، وتعليم الناس فكرتي الدولة الحديثة، والديمقراطية! وما سلم التاريخانيون الماركسيون بذلك؛ بل أعادوا الظهور الرأسمالي إلى شروط وأسباب مادية تتعلق بتراكم الثروات الناجم عن الكشوفات الجغرافية، واتجاه الأوروبيين المستعمرين للأصقاع الأميركية إلى التطوير الصناعي والتقني، واستغلال العمال الفقراء في أوروبا، وشعوب العالم المستعمر لمراكمة الثروات، وزيادة الإنتاج الذي تداولوه في سوق امتدت على مدى العالم. وفي الوقت الذي كان يجري فيه الصراع على الأرض، الذي تخوضه الحركات الاشتراكية عنفا وثورات ومشاركة في الانتخابات للوصول إلى السلطة باسم العمال، ظلت الحركة الفكرية حول تفسير الظاهرة الرأسمالية والأخرى الإمبريالية، جارية على قدم وساق. وبعد عام 1910 تدخل السوسيولوجي والمؤرخ الألماني المعروف ماكس فيبر (1864 - 1920) ليس في نقاش مسألة الصراع الطبقي؛ بل في أصول الرأسمالية في أوروبا، فكتب عدة مقالات صدرت فيما بعد بعنوان «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (1921). وملخص وجهة نظر ماكس فيبر أن البنى الاجتماعية والاقتصادية التحتية أو المادية أسهمت في التطور الرأسمالي، أما في النشوء؛ فإن الذي أسهم هو البنى الدينية أو الأخلاقية العليا أو الفوقية للبروتستانتية الجديدة التي ظهرت في القرن السادس عشر، وهي تملك رؤية أخرى للعالم ولدور الدين فيه، مختلفة عن الرؤية الكاثوليكية؛ وبالذات فيما يتعلق بأخلاق العمل أو منزلته في الدين. ففي الكاثوليكية تملك الكنيسة الخلاص كله باعتبارها وريثة المسيح، أما البروتستانتية التي حذفت الفاتيكان وسلطاته من اعتبارها؛ فإنها تركت الفرد في علاقة مباشرة مع الله. وعلى المسيحي أن يجاهد لإرضاء الله من طريق العمل الجاد والمتفاني في الدنيا، ولا دليل على «رضا الله» و«اختياره» لعبده غير النجاح في العمل الدنيوي الملتزم طبعا بالأصول الأخلاقية للمسيحية. وهكذا فقد صار «العمل الدنيوي» لدى الكنائس البروتستانتية المتشددة (الكالفينية مثلا) عبادة، بل رأس العبادات. واستكشف فيبر مدنا ونواحي في أوروبا ظهرت فيها الصناعات وتطورت عمليات البنوك، فوجدها نواحي ومدنا بروتستانتية في هولندا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وحتى في فرنسا. ولاحظ الرجل أن دولا استعمارية كبرى مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا تجمعت فيها ثروات هائلة، لكنها ما حققت تقدما سريعا لأنها كانت كاثوليكية، ولا تملك «أخلاقيات العمل» التي كان الأفراد البروتستانت يملكونها! واشتدت الهجمات على ماكس فيبر في حياته ليس من المفكرين الكاثوليك وحسب؛ بل ومن الماركسيين والمؤرخين المدققين أيضا. قال الماركسيون إن فيبر ينظر للرأسمالية المتوحشة ويعطيها أبعادا أخلاقية لا تملكها. وذكر المؤرخون الكاثوليك نماذج من النهوض الاقتصادي في نواحٍ ومدن كاثوليكية مثل المدن الإيطالية ومنذ القرن الخامس عشر، قبل ظهور البروتستانتيات جميعا. وناقش فيبر هؤلاء جميعا في حياته، فنفى أن يكون مراده نقد الماركسية، أو امتداح الدين. لكن مقالاته هذه صارت معلما يتجدد الجدال حوله في كل حقبة؛ خاصة خلال الحرب الباردة، وبعد انحطاط الشيوعيات في ثمانينات القرن العشرين. وقد أمكن لكثيرين زعزعة أسس رؤيته أو فرضيته، لكن المؤيدين والناقدين صاروا إلى اعتبار «الانضباط الأخلاقي» شرطا من شروط تجنب المطبات والأزمات الاقتصادية والمالية.

وعلى أي حال، فإن منتدى دافوس لهذا العام، وتحت تأثير الأزمة المالية العالمية، وللدفاع عن الرأسمالية وليس لإدانتها في الأساس؛ لجأ إلى «الأخلاقيات»، وهي دعوة لإعادة النظر والمراجعة، وتطلب الضمانات والضوابط الأخلاقية العلمانية والدينية؛ لكي تكون عاملا مساعدا في الخروج من الأزمة وعدم تكرارها، بالإضافة طبعا للضوابط القانونية والتنظيمية التي فرضتها إدارات الدول، والبنوك المركزية.

إن الذي أذكره بهذه المناسبة قصة قصيرة للروائي الكبير الراحل نجيب محفوظ بعنوان «الشيطان يعظ». وما يعنيه محفوظ العبر والدروس التي توصل إليها شرير كبير نتيجة الأزمات التي وقع فيها. لكن محفوظ انتهى إلى أن الطبع يغلب التطبع في معظم الأحوال!