لعبة الحرب و.. الحرب في تركيا

TT

جريدة «طرف» الليبرالية التي أخذت مكانها بين الصحف التركية قبل عامين، وأعطت الأولوية في جهودها لرصد تحركات ومواقف المؤسسة العسكرية ومحاولات الكشف عن نشاطات وتحركات منظمة «أرغنيكون» السرية، تلقت مؤخرا الكثير من الوثائق والمستندات الصوتية والكتابية، التي تكشف عن مخطط أعدته مجموعة من ضباط الجيش التركي عام 2003 بقيادة تشتين دوغان، هدفه التحضير لانقلاب عسكري يطيح بحكومة العدالة والتنمية، تحت شعار حماية النظام العلماني الأتاتوركي في البلاد. المهدّ هو نوع من الشواكيش المستخدمة في عمليات الهدم والتدمير لكنه أكبرها وأثقلها وزنا وأكثرها فاعلية وتأثيرا، والمهدّ هو الاسم السري لهذا المخطط الذي أعد كما تقول الصحيفة في الغرف الخلفية لقيادة الجيش الأول التركي الذي يشرف على منطقة مرمرة التي تعتبر إسطنبول أهم مدنها.

بعض كبار ضباط الجيش التركي قالوا مدافعين، إن تمرينات روتينية سرية تجري بين الفترة والأخرى بهدف دراسة خيارات حماية البلاد والنظام من مؤامرات داخلية وخارجية ضمن لعبة الحرب التي يقوم بها الكثير من جيوش العالم الحديثة، وإن البعض خرج عن المألوف هذه المرة ووسع رقعة ساحة اللعب والعمليات على حسابه هو واختار لها أبطالا ومواضيع وسيناريوهات تشمل إشراك عشرات المدنيين وتسليمهم مهام القيادة والإدارة السياسية والبيروقراطية بعد هيمنة الجيش على السلطة، وإن ذلك لم يلقَ الدعم والتصويب بين الكثير من الضباط، وإن وثائق هذه النشاطات الوهمية أتلفت كغيرها من خطط مماثلة بعد مرور الزمن عليها.

قبل عامين كان مئات الشبان الأتراك من القوميين المتشددين يرفعون شعارات «ماذا ينتظر الجيش حتى يقوم بوظيفته» ضمن خطة استفزاز مكشوفة غايتها تحريض ضباطه للقيام بضربة عسكرية سبقتها حملات تعبئة شعبية وسياسية واسعة هدفها عرقلة وصول عبد الله غل ذي الجذور الإسلامية إلى قصر «شنقايا» الرئاسي، قلعة العلمانية التركية ومركز الثقل فيها، بعدما «سقطت» الحكومة بيد حزب العدالة والتنمية وهيمن هذا الحزب منفردا على غالبية مقاعد مجلس النواب التركي. اليوم يقف رئيس الأركان باشبوغ ليقول محذرا، إن هناك مخططات مدروسة تتقدم بنجاح وغايتها النيل من سمعة المؤسسة العسكرية ودورها ونفوذها، وهو على حق هنا، فاستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تراجع كبير في شعبية الجيش الذي كان يحتل دائما الصدارة بين المؤسسات التي يثق بها المواطن التركي. السؤال الذي سنعرف الإجابة عنه في القريب العاجل هو: إذا ما كانت الأصوات الرافضة لضمانات باشبوغ الأخيرة أن لا انقلابات عسكرية تحدث بعد الآن، وأن تصرفات بعض الضباط مهما كانت رتبهم وخروجهم عن القوانين لا يلزم قيادة الجيش ولا هذه المؤسسة، وأن التحقيقات الإدارية والعدلية بدأت، وأن الخارجين عن القوانين والأنظمة سيتحملون مسؤولية ذلك، ستكون كافية لطمأنتهم، أم إن المطلوب هو المزيد من التنازلات والضمانات التي تكفل للسلطات المدنية توسيع رقعة نفوذها وانتشارها السياسي بضمانات دستورية، يصر العدالة والتنمية أن تكون من خلال دستور جديد يزيل آثار ورواسب دستور عام 1982، الذي أراده ضباط انقلاب عام 1980 وما زال متحكما حتى اليوم؟

زعيم المعارضة دنيز بيقال يقول، إذا ما كانت الحكومة تملك الوثائق والقناعة الكافية حول تورط بعض كبار الضباط في عملية التحضير لانقلاب عسكري فعليها إعفاء قائد الأركان على الفور من مهامه، أما إذا كانت تريد انتظار نتائج التحقيقات الإدارية والعدلية حتى تقول ما عندها فعليها الإسراع في وقف حملة التشهير بالمؤسسة العسكرية، التي تحمل معها خسائر وأضرارا مادية ومعنوية لن يكون من الممكن تعويضها بمثل هذه السهولة. هي حرب نفوذ وهيمنة واحتلال مواقع ومحاولة استرداد أخرى فقدت بين العسكر المتصلب في مواقفه ومجموعات من الإعلاميين والأكاديميين والمثقفين الليبراليين الذين تدعمهم وسائل الإعلام المقربة من الحكم. ويبدو حتى الآن أن المواجهة لن تنتهي بالتعادل هذه المرة. فالطرفان يواصلان حفر المزيد من الخنادق وإقامة المتاريس والاستعداد للمواجهة الكبرى، خصوصا بعدما سارع بعض الكتاب العلمانيين المتشددين لتذكيرنا بأن خيار الانقلاب العسكري نفسه سيكون في مقدمة الخيارات إذا ما استمرت عملية الاستفزاز والحشر على هذا النحو.

* كاتب وأكاديمي تركي