ما أشبه اليوم بالبارحة، حيث ترسم الأزمة الاقتصادية تضاريس أرض المنافسة عشية الانتخابات المتوقعة في بريطانيا بين حكومة العمال ومعارضة المحافظين.
وينافس الحزبان بعضهما البعض في مصارحة الناس بأن هناك ثمنا يجب دفعه للخروج من الأزمة الاقتصادية.
العمال يريدون فرض الضرائب مع تمويه مسألة إنقاص الخدمات عن عيون الناس، والمحافظون يموهون رفع الضرائب (أي تكون ضرائب على الإنفاق مثل القيمة المضافة) بينما يتحدثون عن ترشيد الإنفاق على الخدمات وتوفير الإهدار.
الكتاب الأخضر - ويعني في اللغة البرلمانية مشروعا للمناقشة بغية إعداد خطط وميزانيات جديدة - الخاص باستراتيجية الدفاع للمستقبل، والذي قدمه وزير الدفاع روبرت إينسويرث لمجلس العموم بعد ظهر الأربعاء، يثير مخاوف تكرار التاريخ لنفسه في أوساط كبار الضباط المتقاعدين والدبلوماسيين السابقين. والفئة الأخيرة تخشى من ترك حلفاء بريطانيا معرضين لأخطار محيقة.
خطط ومقترحات الكتاب الأخضر مبنية على دراسة استراتيجية كانت وزارة الدفاع كلفت بها عددا من المتخصصين لخصت في تقرير داخلي بعنوان «ملامح الصراعات القادمة». ملخصها أن الخطر الذي يواجه المملكة يختلف عن الحرب الباردة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ الفترة التي اعتمدت على أسلحة كتوازن الردع النووي بغواصات الصواريخ ترايدنت أو الدبابات سريعة الحركة أو السلاح الجوي الملكي الذي بلغت شجاعة وبطولة طياريه حد الأسطورة في الحرب العالمية الثانية ويدين لهم العالم المتحضر باستمراره لتمكنهم، وهم فئة قليلة، من دحر النازية ومنعها من احتلال الجزر البريطانية.
التقرير يلخص صراعات الغد بـ«بانصهار منظمات الحروب بالنيابة، والآيديولوجيات المتطرفة، ومصالح الجريمة المنظمة في بوتقة واحدة بجانب تأثيرات العولمة كسهولة التنقل عبر الحدود والتي تجعل احتواء قوى غير رسمية وجيوش غير نظامية أمرا صعبا، ومواجهتها غير مأمونة العواقب».
وملخص رسالة التقرير هنا، قد يتعرف عليها قراء «الشرق الأوسط» بأنها أيضا تهدد الدول الإقليمية الكبرى بظهور منظمات تعمل لحساب قوى خارجية تريد أن تصبح أقوى من الدولة، وآيديولوجيات تبرر إضعاف دور الدولة وإزالة الحدود، سواء بالقنابل واغتيال حراس الحدود فوقها أو الأنفاق تحتها، وإعلام وفضائيات مكنتها العولمة المادية الاقتصادية والتكنولوجية من عبور الحدود وتشكيك الناخب/دافع الضرائب/المواطن/ في حكومته الشرعية ودولته التي يحمل جنسيتها رغم أنها ضمان بقائه وحمايته.
وهذا يبين أهمية الكتاب الأخضر لمستقبل استراتيجية الدفاع البريطانية لمواطني بلدان منطقة الشرق الأوسط.
حكومة العمال، ممثلة في وزير دفاعها إينسويرث، تستخدم هذه الاستراتيجية، التي اقتنع بها الخبراء في وزارة الدفاع، لتبرير تقليل ميزانية الدفاع في وقت تخوض فيه المملكة حربا شبه نظامية في أفغانستان وحربا شاملة ضد الإرهاب، وعدة مهام لحفظ السلام حول العالم، وبزوغ تهديدات لأمن بريطانيا وحلفائها سواء من الإرهاب أو القرصنة جنوب مضيق عدن ومن الإرهاب الانتحاري التكفيري الذي بدأ يرسخ أقدامه الصومال ثم اليمن.
وهذا هو الربط الثاني لأن استراتيجية بريطانيا يجب أن تشمل الدفاع عن مصالح حلفائها العرب الذين تربطهم بها صداقة تاريخية تمثلت في إسراع لندن باستضافة مؤتمر للدفاع عن اليمن ومساعدتها لمواجهة الإرهاب.
ولعل إنقاص الإنفاق وإنقاص المعدات هو أخطر ما يواجه أهم سلاحين في تاريخ المملكة، وهما البحرية الملكية التي كان لها الدور الأكبر في القضاء على تجارة العبيد وحماية سواحل الجزيرة العربية منذ معاهدة الساحل المتصالح في مطلع القرن التاسع عشر؛ وسلاح الجو الملكي ودوره في منطقة الحظر الجوي التي بدونها كان نظام صدام حسين سيطهر الشمال عرقيا من الأكراد والجنوب من الشيعة بالأسلحة الكيماوية.
التشبيه بالبارحة أنه في نهاية 1968 وكانت أيضا حكومة عمالية بزعامة الراحل هارولد ويلسون وراسم سياسته الخارجية دينيس هيلي، تواجه أخطر أزمة اقتصادية منذ أزمة كساد الثلاثينات العالمي وخفض سعر تبادل الجنيه إلى أقل مستوى له.
وبدا هيلي وويلسون يبحثان عن أوجه لتقليل الإنفاق بالتخلي عن الالتزامات في وقت بالغ الحرج. كان الزعيم المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر يروج لفكرة الانقلابات العسكرية – التي سماها الصحافيون المرتزقة وأشباه المحللين السياسيين بالثورات – والتي دمرت النسيج الاجتماعي وخربت الاقتصاد في العراق وسورية واليمن – ويحارب استقرار الأنظمة الملكية باعتبارها سدا اجتماعيا أخلاقيا سياسيا إنسانيا أمام فكرة اغتصاب السلطة بقوة الدبابة، وبالتالي حارب السعودية في اليمن عقب انقلاب عبد الله السلال. وكان هناك تمرد في ظفار وفي عدن.
وفوجئ العرب بقرار أعرق الديمقراطيات، في ظل حكومة عمالية، إدارة ظهرها للشرعية الدولية ولانتهاكات القانون الدولي والانسحاب من عدن، دون التأكد من استقرار المنطقة ومن سيادة ديمقراطية ممثلة للشعب.
كانت الجزيرة العربية بثروتها النفطية تواجه الأخطار والتهديدات من الجهات الأربع. شاه إيران في الشرق يريد بسط نفوذ إمبراطورية فارسية غربا (والأهداف نفسها لا تزال اليوم في قلب استراتيجية الجمهورية الإسلامية الخومينية)، ومن الشمال الشرقي الشيوعية السوفياتية ووكلاؤها في المنطقة في العراق وبر الشام (مثلما تمثل في تهديد عبد الكريم قاسم بغزو الكويت عقب استقلالها عام 1961 وكانت آخر التدخلات البريطانية لحماية استقلال الكويت)، وأيضا في الجنوب سواء في تمرد ظفار أو بالحرب الناصرية في اليمن؛ ومن الغرب عبد الناصر حليف الشيوعية ومهددا بالانقلابات العسكرية واغتيالات مخابرات صلاح نصر؛ وإسرائيل من الشمال.
بلدان الخليج الحديثة الاستقلال (لم تكن الإمارات قد توحدت بعد، إذ كان الراحل الشيخ شخبوط لا يزال حاكما لأبوظبي والشيخ زايد في العين) لم يكن في قدرتها الدفاع عن نفسها ضد المهربين فما بالك بالتهديدات العسكرية؟
جاء قرار حكومة العمال بزعامة ويلسون بسحب البحرية الملكية من مياه الخليج التي حمتها لقرابة قرنين كنزول الصاعقة على العرب.
وتشير الوثائق إلى عرض وفد مشترك من بلدان الخليج، سافر إلى لندن، بالمساهمة اقتصاديا في تكاليف إبقاء البحرية الملكية في الخليج حتى تتمكن من بناء بحرياتها وجيوشها لحماية شواطئها، فرفض وزير الخارجية هيلي وقتها بحماقة لا تغتفر.
ولم يكن أمام العرب وقتها أي خيار سوى أميركا الحديثة العهد بالمنطقة والجاهلة بعاداتها، وكان همها الأول وضع يدها على إرث الإمبراطورية البريطانية – وأميركا نفسها كانت إحدى مستعمراتها – وتأمين موارد البترول، فارتكبت، ولا تزال، من الأخطاء ما كلف المنطقة غاليا.
ولهذا فمسألة دراسة الاستراتيجيين والدبلوماسيين العرب، خاصة الخليجيين، للكتاب الأخضر لاستراتيجية الدفاع البريطانية مبكرا في غاية الأهمية، والاستفادة من عبارة وزير الدفاع بأن المرحلة القادمة تتطلب استراتيجية دفاع مشترك مع الحلفاء، لأن دور الحليف التاريخي بريطانيا لا يمكن الاستغناء عنه في مرحلة الصراع غير التقليدي مع قوى الإرهاب والتطرف والقرصنة والجريمة المنظمة، حيث إن تهديدها أقرب جغرافيا للعرب منه للندن والعواصم الأوروبية.