أنا على مبدأ «بريجيت باردو»

TT

يرى أستاذي سمير عطا الله فيما يرى أن الكاتب حينما يكتب إنما هو بشكل أو بآخر يكتب عن حياته وتاريخه وذكرياته، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا صحيح إلى حد كبير.

ولا شك أنني في حمأة هذه «الهوجة» نسيت نفسي عندما انسقت مع هذا القول، وكأنني صدقت أنني أنتمي حقا لزمرة الكتاب، ولكنني أستدرك الآن، ودون أي قدر من التواضع الأجوف، لأنفي عن نفسي هذه التهمة، فما أنا في الواقع إلا من «الكتبة» لا من «الكتّاب»، وما زلت إلى الآن أتعلم وأتهجى «ألف باء» الكتابة «ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه»، أقولها والله وأنا أعني ما أقول.

ومن ذكرياتي التي لا تنتهي إلا بعد أن يدخلوا بي إلى القبر (بعدة أيام)، أنني في صغري ذهبت في أول يوم من عيد الأضحى إلى منزل أحد أقراني، وتفاجأت به مع والده في الشارع وأمامهما خروف «مبطوح» على الأرض، والوالد يمد سكينا طويلة لابنه يريد منه أن يذبح الخروف بها، وكان الولد يبكي ووالده ينهره قائلا له بالحرف الواحد «اذبحه، اذبحه يا حمار خليك رجّال لا تصير حرمة»، وأخيرا تشجع الولد وأخذ السكين بيد مرتجفة ودموعه على خده، وكأنني أراه الآن عندما أغمض عينيه وحز الخروف على عنقه، لكنه لم يحسن الذبح، فانفجرت «نافورة» من الدم «طرطشت» ملابسي، ومن حلاوة الروح استطاع الخروف أن يتخلص من قيده وانطلق هاربا يعبر الشارع والدماء تسيل منه على الأرض، والأب وابنه يركضان خلفه يطاردانه، فيما كنت أنا قد سبقتهما عندما أطلقت ساقي للريح ولم يردني غير بيت أهلي الذين ما أن شاهدوني والدماء تلطخ ثوبي حتى اعتقدوا أن مصيبة قد حلت بي، وعندما عرفوا السبب أخذوا يقرعونني لأنني «وسخت» ثوب العيد، ومن يومها إلى الآن لا أذكر أنني قد أكلت من خروف أي عيد، ومن يومها كذلك إلى الآن لا أذكر أنني شاهدت خروفا إلا وتأسفت على ذلك الخروف البائس الذي كان يطلب حقه في الحياة دون جدوى.

أعتذر عن هذه المقدمة أو هذا المدخل غير الموفق لهذه المقالة، ولكن ما باليد حيلة، والحمد لله أن الذي بيدي الآن مرسمة وليس سكينا. أدخل في الموضوع الذي كدت أنساه وأقول: قبل أكثر من ثلاثة أعوام قدر لي أن أذهب إلى جنوب فرنسا وإلى «سان تروبيه» تحديدا ولففت على منزل «بريجيت باردو» لعلي أراها أو أرى من يراها، ولكن أملي خاب، وعدت «بخفي مشعل لا بخفي حنين».

هذه المرأة المدعوة «ب. ب» كانت في يوم من الأيام مالئة الدنيا وشاغلة الناس، ولم تزاحمها في هذا الجمال والمجد غير المأسوف على شبابها في ذلك الوقت «مارلين مونرو»، ولا أعتقد أن هناك امرأتين في طول وعرض القرن العشرين كان لهما من الصيت ومن إشعال الحرائق في قلوب الرجال الضعفاء من أمثالي أكثر منهما.

إنني أتعاطف إلى أقصى درجة، ودون أي خجل مع «بريجيت» لحدبها ودفاعها المستميت عن إخواننا «الحيوانات» في هذه الحياة، وذلك لأنني في أعماقي «حيواني النزعة»، لهذا ما إن يشاهدني حيوان ـ أي حيوان ـ حتى يتمسح بقدميّ بحنان منقطع النظير، وأنا بدوري أبادله نفس المشاعر، ولولا خشيتي من أن يتهمني أحد بالجنون لتمسحت به أنا كذلك. فهل مر عليكم بالله إنسان ضعيف ومتهالك أكثر مني؟!. ولو كان الأمر بيدي لحولت كهوف «تورا بورا» وساحاتها إلى مرتع للغزلان، ولحولت «غوانتانامو» إلى مرقص «ديسكو»، ولحولت مجازر «المواشي» في العالم إلى «أتيليهات» للفنون، ولحولت قاعات «الأمم المتحدة ومجلس الأمن» إلى صالات عرض لمسابقات ملكات الجمال، ولكنت أنا الشاهد والمحكّم والفائز الوحيد في تلك المسابقات.

ولكن هذا حلم، إنه أشبه ما يكون بـ«حلم الضبعة».

آه يا بوالمشاعل يا ويلك ويلاه، راحت عليك، ولسوف تذهب غير مأسوف عليك ضحية «لمن يغرهن الثناء» ـ الله لا يعطيهن عافية ـ قولوا آمين.

[email protected]