حكايتي عن الجندي العراقي والجندي الإيراني اللذين وجدا نفسيهما في خندق واحد وصلتنا تعليقات كثيرة عنها. وكان منها تعليق موجز من امرأة إسرائيلية - عراقية، شارون ثيودور، تقول «يا لها من قصة توحي بالتفكير». آه يا سيدتي، يا ليتك تقولين ذلك لزملائك الإسرائيليين وزملائي الفلسطينيين.
أما وقد جرني الزميل مشعل السديري لهذا الموضوع فلا بد لي أن أوفي حقه بقصة أخرى. ولكنها ليست مني، وإنما من ذلك العملاق الكبير في ميدان الرواية، جورج أورويل، صاحب القصة الخالدة «حقل الحيوان».
كان جورج أورويل قد انضم للواء الأممي أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي جرت بين الفلانج، أنصار فرانكو الفاشست، والجمهوريين الذين تسلموا الحكم بعد فوزهم في الانتخابات. كان النازيون قد مدوا الفلانج بكل ما يلزمهم، بما فيه الطائرات، في حين أن الدول الديمقراطية أبت أن تساعد الحكومة الشرعية الجمهورية لمجرد ميولها الاشتراكية اليسارية، ولكن بحجة الالتزام بالحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أجنبية! يا سبحان الله! وأمام هذا الوضع المشين تطوع مئات المثقفين اليساريين والليبراليين والديمقراطيين من سائر أنحاء العالم الديمقراطي لمساندة الحكومة في مقاومة الفاشست ودحر فرانكو. كان همنغواي واحدا من المتطوعين للواء الأممي في تلك الحرب الدموية التي خلفت لنا كثيرا من الأعمال الخالدة ومنها لوحة بيكاسو الشهيرة «غارنيكا» ورواية «لمن تدق الأجراس» لهمنغواي، والكثير من الأعمال الموسيقية. ما زلت أهتز كلما سمعت أناشيد المتطوعين الرائعة التي ألفوها ولحنوها وأنشدوها في طريقهم للقتال. واعتمد اللواء الأممي في تمويله كليا على المساعدات والتبرعات التي جاد بها كل المؤمنين بالديمقراطية ومقاومة النازية والفاشية.
انضم جورج أورويل أيضا لذلك اللواء العالمي، وبعد دورة تدريبية قصيرة على حمل السلاح دفعوا به إلى الجبهة. كلفوه يوما بالقيام بدور القناصة، في أن يختبئ مع بندقيته في حفرة قريبة من مراكز العدو ويترصد للجنود الفاشست ليلتقط منهم من يقع ضمن مدى رؤيته ورصاصاته. ربض هكذا في الحفرة يترقب الساحة التي أمامه. بعد دقائق قليلة، رأى أحد المقاتلين الفاشست يخرج من خندقه ويسير جانبا. امتشق أورويل بندقيته وبادر فورا إلى تصويبها نحوه، تأمل قليلا انتظارا لوقوف ذلك النفر المعادي ليطلق عليه الرصاص بإتقان دون أن يخطئ ويرديه قتيلا. ظل يتابعه بفوهة بندقيته حتى وجد ذلك الرجل يتجه نحو شجرة زيتون ثم يفك سرواله بجانبها ليتبول. أحسن وضعيته لإصابته. ولكن جورج أورويل تأمل قليلا فرأى غير ذلك. قال لنفسه:
«ما هذا برجل فاشست. هذا رجل مزنوق يريد أن يبول! كيف أقتله؟».
سحب إصبعه من زناد البندقية ولم يطلق الرصاص عليه.