نظرة أخرى على مسألة الاحتباس الحراري

TT

لم أكن أعرف أن المسالة خطيرة بهذا الشكل حتى شاهدت الفيلم الذي أعده نائب الرئيس الأميركي السابق آل جور «الحقيقة غير المريحة أو غير المناسبة Inconvenient Truth». وبالتأكيد فإن كل متابع للعلاقات الدولية كان يعرف أن قضية البيئة والمناخ باتت واحدة من القضايا الكبرى للكرة الأرضية، والتي على كل البشر الاهتمام بها لأن مخاطرها تخصهم جميعا. وقبل الفيلم وبعده كانت الأخبار والصور تتوالى حول ما يجري في القطب الشمالي وكيف أن جبال الثلج المترامية باتت آخذة في الذوبان من جراء ارتفاع درجة حرارة الأرض؛ ومن بعدها جاءت أنباء أخرى عن القمم الثلجية لجبال الهيمالايا، والمهم في الحالتين أن البيئة الطبيعية باتت عرضة لتغييرات جوهرية. وأخيرا، وصلت الهموم إلى الوطن حيث تقرع الأجراس فجأة بعد ظن طويل أن ما يجري لا يخصنا من قبيل أو من بعيد بعد أن ظهر أن ارتفاع درجة الحرارة وتحول ثلج الشمال إلى ماء سوف يرفع من مستوى البحار إلى الدرجة التي يجعلها تغرق الأراضي الواطئة في العالم وفي المقدمة منها دلتا الأنهار التي تنخفض كثيرا عن مستوى سطح البحر. وهكذا ظهرت الخرائط المتتالية حول غرق أجزاء غير قليلة من الدلتا المصرية، وأصبح من المعتاد ظهور مقالات في الصحف القاهرية حول خطوط للغرق يترتب عليها لجوء ملايين من البشر تتراوح التقديرات بشأنهم ما بين ثمانية ملايين و22 مليونا، ولكن بات الرقم الشائع 14 مليون نسمة سوف يكون على الحكومة المصرية تهجيرهم إلى أماكن في الداخل المصري. وعبثا بحثت في الخرائط المختلفة عما إذا كان موطن مولدي في واحدة من مدن الدلتا الصغيرة سوف يتعرض للطوفان أم لا فقد كان الخط يتغير مع تغير الخرائط.

أسباب المسألة كانت معروفة، وهي أن الشمس لم تعد المصدر الوحيد للحرارة على الكوكب، وأن الإنسان وصناعاته الكربونية باتت واحدة من مصادر الحرارة المهمة، ولذا أصبح مهما إعادة تنظيم البشرية وصناعاتها حتى يمكن الحفاظ على الأرض التي باتت معرضة لأخطار عظمى. ولا شك أن هذه النظرية كانت تتعرض لبعض النقد من جانب دوائر «يمينية» مختلفة كانت ترى في الموضوع كله «صرعة» ليبرالية من أجل تقييد الصناعات الثقيلة التي لا غنى للإنسان والتنمية عنها. ولكن هذا النقد بدا هامشيا ولا يمكن الاستناد إليه نظرا لدوافعه الآيديولوجية حتى جاءت المناسبة لإجراء حديث صحافي وتلفزيوني مع الرئيس التشيكي «فاتسلاف كلاوس»، فكانت المناسبة لقراءة كتابه «الكوكب الأزرق في قيود خضراء، ما الذي في خطر: المناخ أم الحرية؟» حيث وجدت القضية كلها واقعة في إطار مختلف من الناحية الفلسفية والموضوعية، والأهم لاحت الفرصة لمناقشة مع الرجل حول الموضوع.

نقطة البداية لدى «فاتسلاف كلاوس» تأتي نقلا عن المؤرخ والفيلسوف الروسي البريطاني Isaiah Berlin الذي قال إن «ما كان مصدرا للرعب في القرن العشرين لم يكن الدوافع البشرية السلبية العادية، وإنما كان الأفكار»، فلم تكن المسألة هي الطمع في الموارد الطبيعية أو الرغبة في التوسع بشكل أساسي وإنما كانت في أفكار النازية التي أرادت إعادة تنظيم العالم تبعا للعرق، والشيوعية التي زعمت القدرة على إقامة نظام عالمي أكثر عدالة. في الحالتين من الأفكار الكبرى، النازية والشيوعية، تولّد أبشع ما روع الإنسان من ظلم وقهر. والآن والحديث للرئيس التشيكي فإن هناك آيديولوجيات جماعية أخرى تهدد الحرية الإنسانية في الصميم، وفي المقدمة منها تلك الأفكار المتعلقة بالبيئة والمناخ، فمثلها مثل أفكار القرن العشرين تبدأ من خلال بث الخوف في الإنسان من قوى عتية وقاسية وبعد ذلك تهدف إلى تقييد حرية الإنسان حتى يمكن مواجهة هذا الخوف. وهكذا لا تصبح المسألة مجرد خلاف علمي حول مدى الحقائق المطروحة بشأن التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، وإنما يظهر الموضوع كما لو كان نوعا من الآيديولوجيات الساعية للسيطرة والهيمنة وتقييد حرية الإنسان استنادا إلى ادعاءات نبيلة.

المدهش في الموضوع أن نقطة البداية الموضوعية في الأطروحة هي التسليم أن درجة حرارة الأرض ترتفع بالفعل، ولكن هذا الارتفاع ليس إلى الدرجة التي تثير القلق أو يصعب على الإنسان التعامل معها. ويمكن تلخيص حجج صاحبنا في أربع؛ أولها أن ارتفاع الحرارة ليس شاملا، فهو يحدث فقط في البيئات الباردة وليس في المناطق الاستوائية الحارة، وفي المناطق الرطبة وليس الجافة، وفي الشتاء وليس في الصيف، وفي الليل وليس خلال النهار. وثانيها أن الارتفاع في الحرارة ليس كبيرا، فمتوسط الزيادة في الحرارة خلال القرن الماضي كان فقط 0.74 درجة مئوية أي أقل من درجة واحدة كاملة. وثالثها أن هذا القدر من الارتفاع ليس فريدا أو غير مسبوق؛ فالواقع أن التقارير التي حاولت إثبات هذه الحقيقة قد تعرضت لنقد شديد؛ وبالفعل فإن هناك كثيرا من الكتابات عن التغيرات المناخية التي أدت إلى غرق أجزاء من الإسكندرية في مصر من قبل، فضلا عن الجفاف الذي لحق بمنطقة الصحراء الغربية التي يبدو أنها كانت وارفة الظلال في وقت من أوقات التاريخ. ورابعها أن القدر المعقول من الدفء والذي لا يصل إلى درجة واحدة مئوية ليس مصدره الإنسان فقط أو أن مصادره كلها كربونية، بل إن هناك عناصر كثيرة يمكنها تشكيل هذه الحقيقة.

وعندما سألت الرجل عما كتبه، وكانت الطبعة العربية من كتابه ماثلة أمامه، أعلن عن تمسكه بكل كلمة قالها؛ ولما حاولت الحصول منه على ما يطمئن فيما يتعلق بالدلتا المصرية وموطن ميلادي كانت إجابته مع الابتسامة نوعا من التأكيد ليس على الحقائق العلمية للموضوع بقدر ما كان التأكيد على قدرة الإنسان والبشرية على التكيف مع حقائق صعبة، فكيف يكون الحال إذا ما كان الأمر محدودا بهذا القدر. وحينما ذكرت له أنه ربما كان متأثرا كثيرا بذلك القدر الهائل من الثلج الذي يحيط بالقصر الرئاسي التشيكي، والقلعة التي يقع فيها، ودرجة الحرارة التي تقل عن سبع درجات تحت الصفر عند الظهيرة وسبع عشرة درجة مئوية تحت الصفر عند منتصف الليل حيث لا يوجد سبب واحد للتفكير في ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، فإنه لم يوجد لديه ما يغير موقفه من أن الطبيعة في النهاية لها أحوالها التي تعرف كيف تقيم توازناتها في النهاية. وساعة أن قلت له احتمالات غرق الدلتا المصرية نتيجة ذوبان الثلج في القطب الشمالي لم يبد على الرجل علامة واحدة على الانزعاج وإنما ظهر عليه أنه لا يعرف تفاصيل الحالة المصرية، ولكنه يعرف أن المصريين عرفوا طوال آلاف السنين كيف يتعاملون مع ظروف مناخية متغيرة.

ما بدا حقا نقطة جوهرية لدى الرجل، هو الحد الذي تستخدم فيه «النظرية المناخية» لتطويع الإنسان، وتحديد ما يجب أو لا يجب عليه فعله، وكيف يعيش ويتصرف ويستهلك ويأكل ويسافر؛ ولذا فإنه في النهاية كان يرفض مؤتمر كوبنهاغن، ويطالب بأن يترك الإنسان وشأنه لكي يتكيف بمرونة مع الواقع من خلال التقدم التكنولوجي والأسواق المفتوحة، فما يحتاجه الإنسان حقا هو «الحرية». وبعد ذلك انتقلنا إلى موضوع آخر لم تكن له علاقة بالاحتباس الحراري أو ذوبان القطب الشمالي، وهو كالعادة الصراع العربي - الإسرائيلي وإمكانيات حله؛ وفي هذا الموضوع أيضا كانت له آراء مثيرة كتبتها في مكان آخر. ولكن ما ظل عالقا في الذهن هو قضية كوكب الأرض وحالة الدلتا المصرية وموطني فيها وعما إذا كان ما نسمع عنه محض تخوفات إنسانية مبالغ فيها من رجل غلبت عليه رؤاه اليمينية حتى بات لا يطيق كل ما يأتي من علماء لا توجد ثقة فيما يأتون به من علم؛ أم أن في الأمر حقيقة من نوع ما، تحتاج منا إلى بحوث مستقلة لا نسلم فيها رقابنا لهذا الطرف الغربي أو ذاك؟.