عشية التحضيرات القائمة على قدم وساق للذكرى الخامسة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري لا بد من التساؤل عما هو الأكثر غرابة: أن تضطر قوى «14 آذار» إلى بذل أقصى جهد ممكن لإقناع جمهور «ثورة الأرز» بالاحتفاء في الذكرى بحشد شعبي يليق بالمناسبة وبالرئيس الراحل معا.. أم أن تستمر في اعتبار جلاء القوات السورية عن لبنان حصيلة «ثورة» شعبية؟
قد يقال إن انقضاء خمس سنوات على مأساة الاغتيال فترة زمنية كفيلة بتبريد مشاعر اللبنانيين تجاه تلك الذكرى الأليمة.
وقد يقال إن المعطيات الداخلية المتبدلة، خصوصا على صعيد الاصطفاف السياسي داخل قوى «14 آذار»، خففت من حوافز جمهور «ثورة الأرز» للعودة بزخم إلى الشارع.
ولكن ما يبدو أنه بداية عملية استبدال بـ«الوجود السوري العسكري» لوجود آخر «سياسي» لا يقل عنه نفوذا قد يكون العامل الأبرز في إحباط همم «الثوريين الاستقلاليين» في لبنان، وآمالهم.
واقعيا آن الأوان لأن تفصل مناسبة الاحتفاء بذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عن ذكرى ما يسمى بـ«ثورة الأرز»، خصوصا أن أحد دوافع فتور جمهور «ثورة الأرز» حيال طلب النزول بقوة إلى الشارع تنامي يقينه بأن ثورته كانت اسما على غير مسمى - تماما كحال «الاستقلال» الذي ينعم به بلده، فلماذا تظلم ذكرى اغتيال الحريري بقرنها بذكرى أخرى لا يختلف لبنانيان على أنها أضحت «حلم ليلة صيف»؟
مع ذلك قد يكون «رومانسيّو» ثورة الأرز آخر من يلام على موقفهم الفاتر من المناسبة الكبيرة.
في قرارة أنفسهم كانوا مخلصين لتطلعاتهم ومنسجمين مع مطالبهم أكثر من اللازم أو أكثر مما يسمح به واقعهم اللبناني، ففي دولة تدين بوجودها الجغرافي لتسويتين تاريخيتين: واحدة خارجية (بين بريطانيا وفرنسا) عُرفت باتفاقية «سايكس بيكو»، والثانية داخلية (بين المسلمين والمسيحيين) عُرفت بالميثاق الوطني، لم يحسبوا أن ثورتهم محكومة بالإحباط لأن نجاحها يعني الإطاحة بالتسويتين معا.
وفي دولة نشأت طوائفها الثماني عشرة على شعار «اللا غالب ولا مغلوب» في كل أزمات لبنان الداخلية، لتخرج منها، دائما، بتسوية طائفية إثر تسوية طائفية. لم يكن واردا أن يقود «الرومانسيون» ثورة تقضي على معادلة تحولت عبر التاريخ إلى واحدة من ثوابت الكيان اللبناني. بمنطق تبسيطي: الثورة الحقيقية في لبنان تبدأ بإعادة النظر في معادلاته المذهبية.. وأي تحرك سياسي يمس هذه المعادلة كفيل بزعزعة الكيان اللبناني بأكمله، إن لم يكن القضاء عليه. واللافت أنه بقدر ما تحول نظام لبنان الطائفي إلى ضمانة خفية لديمقراطيته، تحولت ديمقراطيته المذهبية إلى سد منيع في وجه أي تغيير لواقعه - ثوريا كان هذا التغيير أم دستوريا - كما بدا من ردود الفعل «الشعبية» على طرح الرئيس نبيه بري تشكيل هيئة دستورية للنظر في إلغاء الطائفية السياسية.
لا عجب إذن أن يكون مصير كل الثورات وشبه الثورات في لبنان واحدا.
ومشكلة دعاة «ثورة الأرز» أنهم تجاهلوا تاريخ الثورات السابقة في بلدهم بدءا بثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين في القرن التاسع عشر، مرورا بـ«ثورة» القوميين السوريين عام 1948، و«ثورة» العروبيين على حلف بغداد عام 1958 و«ثورة» الحرب الأهلية عام 1975، فباستثناء إدخال بعض التعديلات على التوجهات الخارجية للبنان، انتهت كل هذه الثورات مهيضة الجناح ليعود الأمر الواقع الذي ثارت عليه أقوى مما كان قبل «ثورتها».
ثورة الأرز، في أفضل حالاتها، لم تكن أكثر من انتفاضة شعبية قصيرة النفس أتاحت للبنانيين فرصة فريدة لتنفيس احتقانهم بعد سنوات من الكبت والإعراب عن توقهم لاستقلال حقيقي. أما ما حققته على صعيد جلاء القوات العسكرية السورية من الأراضي اللبنانية فما كان ليحدث بهذه السهولة لولا الضغوط الدولية والإقليمية التي مورست على سورية آنذاك. لذلك قد لا يكون من المبالغة القول بأن دور «ثورة الأرز» في جلاء القوات السورية عن لبنان لم يكن أقوى بكثير من دور القرار الدولي 1559 (الداعي إلى استعادة لبنان استقلاله السياسي) وما رافقه من تحركات دبلوماسية.