المسألة المسيحية في لبنان والمشرق

TT

شهد يوم الثلاثاء الماضي في 9/2/2010 مشهدا مسيحيا (مارونيا) مؤسيا ومعبرا في لبنان وسورية معا. ففي الوقت الذي كان فيه البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير يقيم قداسا في الكاتدرائية المارونية بوسط بيروت، في حضور أركان الدولة بلبنان (رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب) وحشد من رجالات السياسة و«المؤمنين»؛ في ذكرى مرور ألف وستمائة عام على وفاة القديس مارون، مؤسس الطائفة وشفيعها في الاصطلاح الديني لدى الطوائف السريانية. كان الزعيم المسيحي اللبناني الجنرال ميشال عون وإلى جانبه رئيس الجمهورية السابق إميل لحود والنائب سليمان فرنجية (أقرب المسيحيين اللبنانيين إلى سورية وآل الأسد) يشهد قداسا مماثلا في بلدة براد (التي يقال إنها كانت مسقط رأس مار مارون، وموطن دفنه) بجوار مدينة حلب السورية، احتفاء بالذكرى نفسها، ومعه حشد من «المؤمنين» أيضا. وللجنرال عون تارات (كما يقال بالعامية اللبنانية) على البطرك منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عندما كان الجنرال يشن حربين على سورية وعلى سمير جعجع قائد القوات اللبنانية، ولا يقبل باجتماع مجلس النواب، إلا إذا انتخبوه لرئاسة الجمهورية. يومها، ومن أجل إيقاف الحرب بين المسيحيين، وإنهاء النزاع الداخلي، كما إنهاء الفراغ في رئاسة الجمهورية (بعد انتهاء مدة الرئيس أمين الجميل)، دعم البطرك اجتماع النواب بالطائف، بعد أن تعذر بلبنان، حيث جرى تعديل الدستور، وانتخاب رينيه معوض فإلياس الهراوي لرئاسة الجمهورية. وما أمكن إخراج الجنرال عون من القصر الجمهوري وقتها إلا بتدخل من القوات السورية، وذهاب الجنرال عون إلى المنفى بفرنسا التي قضى فيها زهاء الخمسة عشر عاما، مضى خلالها إلى الولايات المتحدة للمساعدة على إصدار قانون محاسبة سورية بالكونغرس الأميركي! وانقلب المشهد اليوم، بل منذ حوالي الأربع سنوات، حين تطور الجنرال عون إلى أشد أنصار سورية حماسا، والأقرب إلى قلب الرئيس بشار الأسد؛ وصارت سورية تعتبر البطرك صفير – إلى جانب سمير جعجع - أشد خصومها شراسة وعداء!

ولا أحد يدري الآن، لماذا اختار النظام السوري أن يسهم في تعميق الانقسام في أوساط الطائفة المارونية. فهناك من يخمن أنه يريد أن يعود حاميا للأقليات المسيحية، بعد أن تعالت الصيحات في السنوات الأخيرة من تضاؤل أعدادهم وتكاثر أعداد المسلمين من الشيعة والسنة. وهناك من يظن أنه بحكم العلاقة التاريخية مع الشيعة، واتجاه العلاقة للتحسن مع السنة بعد زيارة زعيمهم سعد الحريري رئيس الحكومة لسورية؛ فإن العلاقة الحسنة مع المسيحيين تدفع باتجاه عودة النفوذ السوري إلى لبنان بموافقة سائر طوائف لبنان الكبرى. وبخاصة أن الرئيس الأسد كان قد قال في مقابلة مع الصحافي الأميركي سيمور هيرش إن لبنان مهدد دائما بنشوب الحرب الأهلية خلال أيام، ما دام نظامه على هذه الشاكلة. وعلى هذا الأساس؛ فإن الرجل يرغب فيما يبدو - وله الشكر - في حمايتنا من شرور حرب أهلية جديدة، كما حمانا والده الرئيس الراحل حافظ الأسد في السبعينات.

لكن أيا تكن أسباب تصرف الرئيس الأسد؛ فلا شك أن هناك تأزما متصاعدا في أوساط المسيحيين اللبنانيين والعرب والمشرقيين بسبب تهدد وجودهم السياسي والاجتماعي والإنساني في المشرق العربي. ومنذ مدة يعد الفاتيكان لسينودس (اجتماع كنسي على مستوى عال) يبحث في مصائر المسيحية المشرقية. وكان العاملون على الإعداد للسينودس قد قالوا في أحد بياناتهم التمهيدية قبل شهر إن المسيحيين في لبنان منقسمون دينيا وسياسيا. وقالوا أيضا إن المسيحية مهددة في وجودها في العراق وفلسطين، وهناك تضييق على المسيحيين في سائر أقطار المشرق. وبحسب تقرير الفاتيكان أيضا فإن عدد المسيحيين من سائر الكنائس بالمشرق يبلغ 17 مليونا، بينهم خمسة ملايين كاثوليكي. أما الأكثرية فهي من الأقباط والأرثوذكس. لكن الموارنة (المتحدثين مع الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن الخامس عشر أو السادس عشر)، والذين لا تزيد أعدادهم بلبنان اليوم على المليون، لهم تميز بين المسيحيين العرب أو المشارقة بسبب ارتباطهم التاريخي بجبل لبنان (منذ القرن التاسع الميلادي)، وإسهامهم الرئيس في إقامة الكيان اللبناني بمساعدة الدول الكاثوليكية بعد الحرب العالمية الأولى، وفي مقدمتها فرنسا. ووقت قيام الكيان كانوا أكثر من نصف السكان المقيمين بقليل، وتمتعوا بامتيازات سياسية لا يزال بعضها قائما حتى اليوم. لكن ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، بدأ المسلمون بالتذمر بسبب الإجحاف وعدم المساواة في حقوق المواطنة. وتبلغ أعداد المسلمين بلبنان اليوم أكثر من ستين في المائة من مجموع السكان. أما تضاؤل أعداد المسيحيين فله أكثر من سبب. ومن أسبابه الاضطراب شبه الدائم بالداخل اللبناني. فقد تحمل لبنان أكثر من غيره عبء القضية الفلسطينية، كما تحمل في العقدين الأخيرين أعباء فائض القوة والاستقطاب لدى الثورة الإسلامية بإيران. ولذلك تكاثرت هجرة المسيحيين من لبنان إلى ديار الاغتراب بالأميركتين وأوروبا. ثم إن المسلمين (الريفيين على وجه الخصوص) يتكاثرون بنسب أعلى من تكاثر المسيحيين. وما حدثت مشكلة لهذه الجهة بعد الطائف، حيث أسقط مسلمون مقولة العدد من حسابهم، ورأى سياسيوهم - وفي طليعتهم الرئيس رفيق الحريري - أن في الوجود المسيحي العزيز والقوي ميزة للبنان، وأن العيش المشترك فيه بين المسلمين والمسيحيين – بحسب قول للبابا السابق - يجعل منه وطن رسالة وحضارة. إنما على الرغم من ذلك؛ فعندما طرح رئيس مجلس النواب نبيه بري في الشهور الأخيرة فكرة تشكيل اللجنة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية - بحسب ما نص عليه الدستور - انتشر قلق كبير في أوساط المسيحيين، وطرحوا فكرة إعادة الجنسية اللبنانية إلى ملايين المتحدرين من أصول لبنانية من أعقاب المهاجرين منذ عشرات العقود من السنين، وتمكينهم من المشاركة في الاقتراع حيث هم من ديار الاغتراب! وقد يكون هذا الحل حلا وهميا، أو أنه لا يفعل شيئا غير تأجيل تجدد المشكلة.

بيد أن ما يستطيع التفكير فيه المسيحيون اللبنانيون، لا يملك أن يفكر فيه المسيحيون العرب في العراق وفلسطين. وقد كانت هناك هجرة في أوساط المسيحيين بالعراق قبل الاحتلال الأميركي له. لكن السنوات السبع الماضية، وما جرى فيها على المسيحيين هناك من ضغوط وقتل وتشريد؛ كل ذلك هدد الوجود المسيحي العريق ببلاد الرافدين من جذوره. وقد أصاب المسيحيين بفلسطين من صهاينة الكيان، مثل ما أصاب المسلمين وأكثر. وفي القدس اليوم 14 كنيسة، لا يجد بعضها الرعايا المؤمنين لإقامة القداس. ولا يتعرض المسيحيون في سورية لضغوط ظاهرة. لكن الهجرة في أوساطهم أعلى نسبة من الهجرة في أوساط مسيحيي لبنان والأردن. وفي لبنان اليوم مئات الألوف من المهاجرين من سورية من المسيحيين والمسلمين، ممن حصلوا على الجنسية اللبنانية. ومن الطريف (تاريخيا) أن الطائفة السريانية المارونية التي تكونت من حول ضريح مار مارون إنما ظهرت في الأصل في سورية الشمالية. وعندما حدث الفتح الإسلامي، وقعت الطائفة الصغيرة على الحدود والتي سالمت الفاتحين العرب، تحت ضغوط وإغارات البيزنطيين (الأرثوذكس)، فهاجرت بشكل شبه جماعي إلى جبال وهضاب لبنان الشمالي ثم تمددت من هناك عبر القرون إلى سائر أنحاء لبنان! ويشكو الأقباط المصريون (بل إن اليونان سموا البلاد باسمهم) منذ سبعينات القرن الماضي من ضغوط النظام والكثرة الشعبية الإسلامية. وفي العقد الماضي كثرت أحداث العنف والقتل ضدهم، كما حدث عند خروجهم من قداس الميلاد بكنيسة نجع حمادي أخيرا.

وربما كانت بعض ردود الفعل المسيحية مبالغا فيها، من مثل تظاهرات الأقباط بالولايات المتحدة وبريطانيا، واتهامهم للنظام. ومن مثل مطالبات المسيحيين اللبنانيين بمنح الجنسية اللبنانية لأحفاد المهاجرين إلى الأميركتين. لكن التأزم المسيحي بالمشرق العربي لا شك فيه. ومن أسبابه ولا شك أيضا – إلى جانب الاضطراب الهائل الذي أحدثه قيام الكيان الصهيوني - فشل تجربة الدولة الوطنية في العالم العربي. إذ ما قامت دولة المواطنين، ولا دولة القانون وحكمه. ولا قامت حياة سياسية حرة، ولا تمتع الناس بالحريات الاقتصادية والاجتماعية وحريات التعبير والتصرف والحراك. ثم إن الصعود الديني الإسلامي ومقولاته الحصرية والتصرفات العشوائية لبعض حركييه؛ كل ذلك بعث ويبعث على الخوف في أوساط المسيحيين. ووسط هذا الخضم من الديكتاتوريات والأصوليات؛ شكل لبنان – وللمسيحيين فضل كبير في ذلك - واحة واستثناء للمسيحيين والمسلمين على حد سواء. ثم كانت الحروب الإسرائيلية على لبنان والفلسطينيين فيه. وكانت النزاعات والانقسامات الداخلية التي أسهم فيها المسلمون والمسيحيون وطبقتهم السياسية بحماس. وكان التدخل السوري على وقع الاضطرابين الكبيرين، حيث سيطر النظام السوري على لبنان على مدى ثلاثين عاما. وإلى جانب العبء السوري وعبء القضية الفلسطينية ومسؤولياتها، جاء عبء الثورة الإيرانية وامتداداتها واستهدافاتها والاصطفافات التي أحدثتها على الأرض اللبنانية؛ فما بقي أحد آمنا في البلاد، لا من المسيحيين ولا من المسلمين!

المسيحيون العرب إذن إلى أين؟ يستطيع الفاتيكان المضي نحو السينودس ونحو القدس. ويستطيع هذا النظام العربي أو ذاك أن يقدم نفسه حاميا للمسيحيين؛ لكن ذلك كله لن يحل المشكلة، ما لم تقم دول المواطنين الأحرار، وتنتهي القضية الفلسطينية إلى حل عادل، ويتخلص المسلمون، قبل المسيحيين، من كآبات الأصولية وغضبها. قال لي المطران جورج خضر (مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس) مرة عندما كنت أشرح له بين المزاح والجد «محاسن» نظام أهل الذمة في العصر الوسيط: نحن المسيحيين لا نريد أن نكون في ذمة أحد من الناس، بل نريد أن نكون معا في ذمة الله. ثم إننا لا نريد حماية هذا النظام أو ذاك، لأن المحميين سيكونون أول الضحايا إذا تغير النظام أو إذا ارتأى أن يغير سياساته لأي سبب!