نحو علم الأصوليات المقارنة

TT

كان شارل ديغول يقول: مشكلة الفرنسيين هي أنهم يعتقدون أن لكل مشكلة حلا. ولكن ينبغي أن يعلموا أن هناك مشكلات لا حل لها في المدى المنظور. ينبغي أن ننتظر حتى تنضج الظروف، أو تستوي الطبخة، كما يقال بالعامية، لكي نجد لها حلا. الرجل الذي يقول هذا الكلام يعرف عما يتحدث. فقد حل للفرنسيين مشكلاتهم مرتين، وأنقذهم من الدمار ودلهم على الطريق. ولكن طالما شتمهم وتأفف منهم في مجالسه الخاصة قائلا بنفاد صبره المعهود: مشكلتي هي أن الفرنسيين حمير أو بقر. ولا أستطيع أن أفعل شيئا. فإذا كان الفرنسيون حميرا فما بالك بنا نحن؟ لكن هذا لم يمنعه من أن ينقذهم مرتين كما قلنا: المرة الأولى أثناء الحرب العالمية الثانية، والمرة الثانية أثناء حرب الجزائر الرهيبة التي غطست فيها فرنسا ولم تعد تعرف كيف تخرج منها. وبعدئذ صنع منهم أمة متقدمة واثقة بنفسها ثم رحل.

ولكن ماذا يمكن أن نقول عنا نحن العرب؟ يبدو أن كل مشكلاتنا لا حل لها، لا في الوقت الحالي ولا في المدى المنظور. كل شيء معلق ومؤجل ومحتقن حتى ينفجر انفجارا. وعندئذ نصرخ ونولول ونثور متفاجئين: يا إلهي لماذا حصل لنا ما حصل؟ من أين جاء كل هذا؟ ولا أحد مستعد أن يراجع نفسه، ولو للحظة، لكي يفتش عن السبب الحقيقي أو عن مسؤوليته في السبب. دائما الحق على الجهة الأخرى أو الطائفة الأخرى، أما هو فبريء كل البراءة. كيف يمكن أن تتقدم أمة بهذه العقلية؟

من المشكلات التي لا حل لها في المدى المنظور مشكلة التنوير الديني، انطلاقا من مشكلة السرطان الطائفي أو المذهبي الذي يكتسح العالم العربي حاليا. والسبب هو أن التنوير صيرورة طويلة، معقدة، بطيئة، صعبة. فأنت لا تستطيع بين عشية وضحاها أن تحل التفسير العقلاني للدين محل التفسير التقليدي الموروث الراسخ الجذور منذ مئات السنين. لا تستطيع أن تقتلع الأفكار القديمة من عقول الناس اقتلاعا. لا ريب في أن تجديد برامج التعليم وإقامة مؤتمرات الحوار بين الأديان والمذاهب شيء مفيد وضروري. لا ريب في أن كسر الجدران النفسية، التي تفصل بيننا على اختلاف طوائفنا ومذاهبنا بفضل هذه الحوارات واللقاءات المحلية أو العالمية، شيء في غاية الأهمية. وينبغي أيضا نشر الكتب العلمية والتاريخية والفلسفية عن الدين على أوسع نطاق، لكي تواجه التأثير الكاسح للكتب الصفراء التي علاها الغبار وتكرس المواقع القديمة. لكن هذا يستغرق وقتا حتى ينغرس في الأرض العميقة ويحدث تغييرا حقيقيا في العقليات. تحضرني بهذا الصدد قصة جرت للمؤرخ الفرنسي الشهير إيمانويل لوروا لادوري، فقد صادف في شبابه الأول أن عينوه في مدرسة بأحد الأقاليم التي تنتمي إلى الأقلية البروتستانتية. وفي أحد الأيام نسي نفسه وهو يتحدث عن تاريخ فرنسا فصدرت عنه هذه العبارة: كان الزنادقة البروتستانتيون.. وفورا حصل هرج ومرج في الصف لأن أغلبية الطلاب ينتمون إلى هذا المذهب الذي تحتقره أبناء الأغلبية الكاثوليكية. وعندئذ طلبه المدير إلى مكتبه وقال له: يا أخي العزيز هناك أشياء لا تقال. إني أعرف أنها هفوة لسان صدرت عنك، ولكن راقب نفسك جيدا في المرات القادمة. فهناك جروح قد لا تندمل حتى بعد مرور مائتي سنة عليها. لا ريب في أن فرنسا تجاوزت الحروب المذهبية المدمرة، لكن الجرح لا يزال طريا عند البعض.. ويقال إن عضو الأكاديمية الفرنسية أندريه شامسون ظل مجروحا من قصة الاضطهاد التي تعرض لها آباؤه وأجداده على مدار القرون من الأغلبية الكاثوليكية. نقول ذلك على الرغم من أنه تقلد أعلى المناصب في الدولة الفرنسية، ولم يعد هناك أي أثر للاضطهاد المذهبي في فرنسا المعاصرة.

خطرت على بالي هذه الأفكار بعدما سمعت عن أحداث طائفية مؤلمة في مصر، أو بعد طرد إمام جامع أصولي من فرنسا يبث الأفكار المتعصبة والبالية في أوساط جاليتنا. ولكن إذا كانت فرنسا تستطيع أن تحمي نفسها من الأفكار الأصولية المتعصبة، مسيحية كانت أم إسلامية، إلا أن بلداننا لا تستطيع لسبب بسيط: هو أن هذه الأفكار تمثل لدى البعض يقينيات مطلقة لا تقبل النقاش.

في الواقع إنه من الظلم لنا، بل إنه لشيء تعجيزي، أن يطالبونا بتحقيق ما أنجزته أمم متقدمة قوية، صاعدة على مدار ثلاثمائة سنة متواصلة. نحن عاجزون ضمن الظروف الحالية عن مواجهة المد الطاغي للأصوليين السلفيين. التنوير لا يزال أقلية حتى في أوساط المثقفين، فما بالك بعامة الشعب؟ ولكن من المفيد أن ننظر في تجربتهم ليس من أجل تقليدها حرفيا، بل من أجل المقارنة واستخلاص بعض الدروس والعبر. فآليات التعصب الديني تبقى واحدة في كل الأديان. أعتقد شخصيا أن هذه المقارنة قد أصبحت ضرورية لإضاءة الوضع المعقد الذي تتخبط فيه المجتمعات العربية حاليا.

نقول أننا نقارن أنفسنا بأمم متطورة حلت المشكلة الطائفية منذ زمن طويل وحققت قفزات كبيرة في مجال الحضارة والتمدن والرقي. وهذه الدراسة المقارنة هي ما كنت قد دعوته سابقا بعلم الأصوليات المقارنة أو علم التنوير المقارن، لا فرق. وقد آن الأوان لتأسيسه في العالم العربي.