العشاء الأخير مع غازي

TT

* أبا يارا.. أين أنت؟ أنا قلق عليك.

- أنا نجاد.. الوالد الآن في مستشفى الملك فيصل التخصصي.. يجري بعض الفحوصات الطبية.. ويبدو أن نتائجها جيدة.

* الحمد لله.. إذن بلغه باتصالي.

.. بعدها بيوم جاء صوت غازي على جوالي.. هذه المرة لم يكن مفعما بحيويته المعتادة.. وقد أحسست بشيء ما «يشوب ذبذبات صوته»:

- ها محمد رضا ويش عندك.. كنت أجري بعض الفحوصات على «القرحة» نتائجها فيما يبدو إيجابية.. إلا أن طويل العمر مصر على أن أذهب إلى أميركا لإجراء مزيد من الفحوصات.

* وهل ستسافر؟

- نعم.. بعد يومين.

.. في اليوم التالي.. هاتفني:

- ماذا في برنامجك هذا المساء..؟

* أنا تحت أمرك.

- تعال إلي.. لقد طلبت من السدحان أن يعد لنا وجبة سليق، ولا أريد أحدا غيركما سوى شريف.

.. في الثامنة مساء، طرقت باب شقته الأرضية في المجمع السكني، الذي يملكه أحد الأصدقاء.. وفتح الباب مستخدمه الهندي الوحيد معه.

بعد قليل أطل غازي مرحبا محييا.. جلس في مقعده المعتاد، غير أنني استشعرت «شيئا ما» في وجهه.. بدأ الحديث عن القرحة.. وهي داء قديم لازم غازي منذ شبابه.. ثم حدثني بإعجاب عن آخر مكتشفاته الروائية «زهرة الخشخاش»، للروائي المصري خيري شلبي.. وكان قد دخل علينا زميل دراسته في كلية الحقوق بالقاهرة أواخر سنوات الخمسينات الميلادية، الأستاذ شريف عمر حسن، المستشار القانوني، وسبط مفتي الديار المصرية الراحل الشيخ حسنين مخلوف.. وفي يده كتاب «الأمثال العامية» للعلامة المحقق أحمد باشا تيمور، وكان غازي قد طلبه منه.. أخذه ثم راح يقلب صفحاته، مفتشا عن شرحه للمثل الشعبي «دخول الحمام مش زي طلوعه» قارئا شرحه بصمت:

«لأن الدخول ميسر متى شئته، وليس الخروج كذلك»؟! هل كان يهجس لحظتها بما ستكون عليه رحلة الفحص الأميركية من مصير؟! وهو يزمع الذهاب إليها باختياره.. فهل سيكون الرجوع منها سهلا مطمئنا ميسورا؟!

وإذ تحدث عن نفاسة الكتاب، طرأت على باله فكرة تجليد الكتاب، وسألني ما إذا كنت أعرف مكان تجليد مناسبا.

.. هذه أول مرة في تاريخ علاقتي المديدة بغازي أراه مهتما هذا الاهتمام بكتاب، فعلى كثرة ما يقدم له صديق الجميع عمران محمد العمران وأنا من كتب.. لم أسمع منه مرة يطلب تجليد كتاب.. فلماذا هذه المرة يبدي رغبته الحثيثة في تجليد كتاب؟ راودني حينها إحساس كابوسي أسود، وهو يتصفح الكتاب، جعلني أربط اهتمامه هذا بـ«الشيء ما» وهاجسني طوال تلك الليلة.

كان آخر الواصلين الأستاذ عبد الرحمن السدحان، أمين عام مجلس الوزراء، ومعه مائدته.. قمنا إلى طاولة الطعام.. جلست إلى جنب غازي.. وفي المقابل جلس السدحان وشريف، نتناول العشاء الأخير مع غازي.. هذه المرة دون دعابات غازي، وشهيته «الأبيقورية» للمسامرة والمؤاكلة، كما هي عادته مساء الثلاثاء، مع حرافيشه المنتقين، بعناية، بعدد أصابع اليد، وأقل من أصابع اليدين.

خرج يودعنا إلى خارج الشقة.. شريف وأنا.. ثم وقف مع السدحان يتناجيان.. وعلى غير عادتي وقفت غير بعيد أتأمل غازي بطوله الفارع وجسده الضخم و«الشيء ما» يطاردني كشبح.

* * *

.. بعد سفره وما نشرته جريدة «الحياة» عن نقله إلى مايو كلينك في منيسوتا بطائرة الإخلاء الطبي.. تدفقت اتصالاتي بجواله شلالا مضطرما من الأشواق الحارة والأسئلة المستنفرة دون جواب، مما جعل ذلك «الشيء ما» يكبر ويحوس في نفسي.. رد على اتصالاتي بعد أسبوع، مبتدرا بالأسف على تأخره عن الرد.. (فقد كنت منهمكا في الفحوصات.. لا تقلق.. الفحوصات مطمئنة، وسوف يتم تفريغ ما في المعدة عبر الإثني عشر إلى الأمعاء.. وكلها شهر وأنا عائد إليكم بإذن الله).

ظللت أتواصل معه أسبوعيا.. وحينما تجاوز مكوثه في المستشفى أكثر من الشهر طفقت أسائل أصدقاء جلسة الثلاثاء.. د. علي بن طلال الجهني، هون علي الأمر، وهو يشرح تفاصيل العملية «البسيطة»، متقمصا شخصية طبيب جراح!! وعبد الرحمن السدحان لم يكن أقل تفاؤلا منه.. أما عمران العمران فهو الذي بدأ يشعل نيران القلق في «الشيء ما» وقد صمم على الذهاب إلى غازي في مايو كلينك.. بعدها بليلة أو ليلتين كنت أزور الأستاذ خالد العيسى، نائب رئيس الديوان الملكي.. أعزيه في فقيد من أهله.. وحيث استغرقنا الحديث عن قضايا عدة، صدمني بالطامة الكبرى، مفجرا مكبوت «الشيء ما» فغازي يعاني من سرطان متقدم في المعدة ولا يرجى له برء.. هذا ما أكده لي عمران بعد عيادته السريعة لغازي.. وظللت في بيته عصر ذلك اليوم الحزين، نستعرض معا ذكرياتنا الجميلة مع غازي، وقد سبق مجموعة الحرافيش ما عدا شريف إلى صداقته، منذ اقتراحه غازي على الأستاذ عبد الله بن عبد العزيز السديري، وكيل وزارة الداخلية المساعد لشؤون البلديات في بداية الستينات الميلادية.. ليكون والأستاذ صالح المساعد - رحمه الله - ضمن وفد مفاوضات السلام في اليمن، بعدما وضعت الحرب أوزارها بين الملكيين والجمهوريين في ذلك البلد المنكوب غير السعيد، وقد تخرج غازي في جامعة كاليفورنيا حاملا درجة الماجستير في العلاقات الدولية.

.. تأثر عمران لحزني وغمي، ونقل ذلك، على الفور، إلى غازي، وبعد يوم بادرني بالاتصال محاولا طمأنتي.. أرسلت إثرها ابني لعيادته.. وجاء صوته من جوال فراس مداعبا: هذا مندوبك السامي عندي، وأنا بخير فلا تقلق.. وبدا بمعنويات أسطورية، صابرا، محتسبا، موكلا أمره إلى الله العلي القدير، وقد أخبرني ابني أنه لم ير غازي متألما أو متأففا، بل إن معنوياته المرتفعة كانت مثار إعجاب أطبائه، محاولا أن يكون بردا وسلاما على قلوب زوجته المصدومة، وبنته وبنيه المثكولين.. ومن حولهم طاقم سكرتاريته الذين أبوا أن يستجيبوا لطلبه بالعودة إلى أهليهم، فلم يفارقوه حتى آخر لحظة من حياته، وعلى رأسهم مدير مكتبه الوفي الأستاذ هزاع العاصمي.

كنت أتواصل معه باستمرار.. مرة يأتيني صوته قويا، وأخرى ضعيفا، وقد استبد به المرض الخبيث.. ومع ذلك حاول دائما ألا يحبط مشاعر أهله وأصدقائه والحافين به.. أخبرني بأنه قرأ كثيرا.. وطلب مني إرسال بعض الكتب.. ومرة استوقفني عند الحوار التلفازي، الذي أجريته مع يفجيني بريماكوف، وزير خارجية ورئيس وزراء روسيا السابق، مستوضحا عما قاله لصدام حسين بضرورة خروجه من العراق لتفادي قواصف الحرب على بغداد. ومرات نتوقف عند بعض الأحداث الاجتماعية وقضايا العمل والعمال في المملكة.. وما ينشر في الصحف من مقالات وقصائد تتشوق إلى عودته ولقائه، موصيا القيام بالرد والشكر لكتابها إن أمكن ذلك.. وكذلك ما تضمنته قصيدته «سبعون»، وقد اعتاد غازي أن يكتب قصيدة كلما تجاوز عقدا من سني حياته، بينما استشرف سنواته السبعين الكالحة بأنيابها الحادة، ورحيل الأشقاء والصحب والأحباب في قصيدته «حديقة الغروب» بعدما انتصف عقده الستيني!!

* * *

.. بعد استكمال جرعات العلاج الكيماوي.. فاجأنا بالعودة السريعة إلى بيته في البحرين.. هاتفته صباح وصوله إليها بألا يستجيب لعواطف أي من أصدقائه ومحبيه، أثناء فترة نقاهته من المرض الخطير.. إلا أنني بعد شهر، تمردت على هذه النصيحة.. وكم كان مفاجئا قبوله الزيارة عندما عرضت عليه رغبتي:

_ متى ستأتي؟ يوم الخميس.. هذا الخميس. لا.. الخميس الذي يليه.. وقتها عاوده المرض اللعين مرة أخرى وأخيرة.. وحينما أبديت رغبتي.. قال لا تأتي الآن.. فلا أود أن تراني بما أنا عليه.. في الخميس الذي تلاه رحب باستقبالي.. وأعطى هاتفه الجوال فواز، صهره وابن أخيه ليصف لي موقع بيته الجديد في شارع المزارع بمحافظة الجسرة.. مررت بالأشجار الخضراء.. والنخيل ذات العذوق الحمراء والصفراء.. وعند بوابة بيته الذي نقل اسم «سفين» من بيته الأول على البحر إلى بيته هذا الوحيد الأخير.. استقبلني فواز وقادني إلى المجلس.. دقائق قليلة.. ثم أقبل غازي يترنح.. لقد هده المرض هدا.. أفقده أكثر من نصف وزنه.. بادرني بالسلام والتحية والتقبيل.. وكنت عازما السلام عليه ومحادثته من بعد.. مقدرا حراجة وضعه الصحي الصعب، وعقابيل فترة النقاهة من هذا المرض الخبيث.. لم لا؟ وغازي في الأصل قابل للعدوى من حالة رشح.. في تلك اللحظة انتابني إحساس «أمومي» لم أحس به مع أي مريض عدته من قبل.. كنت خاشيا عليه من هبة نسمة تضر بجسده النحيل العليل.. قربني إليه.. سأل عني وعن عائلتي فردا فردا، خاصة ابنتي التي اقتبس اسمها لواحد من دواوينه «واللون عن الأوراد» باهتمامه، ناصحا إياي بضرورة إكمال دراستها الطبية في كندا أو أميركا..

وبعدها راح يشرح لي ما جرى له، ملمحا إلى نقصان آخر من وزنه، مشيرا إلى تطورات غير سارة.. إلا أنه سرعان ما قلب الصفحة متحدثا عن إرسال مخطوطته «الوزير المرافق» إلى ماهر كيالي في بيروت، وطالما سرد لي بعض أحداثها في ليالي سمره وأنسه.. وعزمه على إرسال «الزهايمر» إلى عيسى أحوش، صاحب مكتبة ومطبعة «بيسان» في بيروت.. وحين قلت له: تمهل حتى تستكمل النص.. أجابني.. كنت مخططا لأن أنهي فصول رواية «الزهايمر» على مدى سنة ونصف السنة، إلا أن وضعي الصحي كما ترى.. فأنا الآن في حالة صراع مع الزمن، لهذا اضطررت لاختزالها إلى أقصوصة.. كان غازي قد وعد عيسى أحوش بأن يخصه بأحد مؤلفاته قبل أن يمرض.. ولم يرد أن يخل بما تعهد به حتى وهو على فراش الموت.. فالوفاء في شخصية غازي ديدن فريد نادر.. وأقصوصته «الزهايمر» هي الكتاب الوحيد الذي لم يره، فقد صدر يوم وفاته.. وقد فوضني قبل وفاته بأيام على لسان هزاع العاصمي متابعة صدورها، وفعلا فقد أعطيت للناشر بالنيابة عن غازي الإذن بطباعتها، بعدما زودها ببعض الرسومات تلافيا لقلة عدد صفحات الأقصوصة!

سألته عن قراءاته.. وأجابني بأنه أصبح بسبب الضعف العام في جسده غير قادر على قراءة الكتب المطولة.. وهو الذي قرأ بتمعن كتاب «سنة الأولين» الضخم جدا لابن قرناس من الغلاف إلى الغلاف.. ولكنه مع هذا لم يترك هوايته الأثيرة، مستمرا في قراءة الروايات القصيرة قبل انتقاله الأخير إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي.. وقبل أن أودعه قلت له أنت تعلم أكثر مني أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدا ابتلاه.. وما جرى عليك هو امتحان رباني لصدق إيمانك.. فأجابني: أنا مستسلم لقضاء الله ومؤمن بقدره، عليه سبحانه وتعالى معتمدي وتوكلي.. وأردف قائلا:

- هل كنت تتصور أن يأتي الشيخ سلمان العودة إلى البحرين ويقيم ليلتين في الفندق طالبا بإلحاح زيارتي، مستشهدا بالآية الكريمة (لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي)، ما هذا الحب من رجل، بدأت علاقتي وإياه - كما تعلم - بعداوة فكرية؟

.. لمست منه الرغبة في جلوسي لمواصلة الحديث.. غير أنني ضغطت على مشاعري.. وقسوت على أحاسيسه وأحاسيسي، وإذ استغرب من تعجلي.. أخذني للاطلاع على مكتبته قائلا: هذا أعز ما أملك - طالما تغنى بمكتبته - ألقيت نظرات سريعة على رفوفها الكثيرة.. ثم توجهت نحو الباب للخروج.. حاول وداعي عند الباب.. مقسما عليه أن يبقى داخل البيت.. ففي الخارج بدأ جو صيف البحرين في الالتهاب.. إلا أنه أصر على موادعتي إلى خارج البيت.. نادى بصوته النحيل الممزوج بالحزن على مستخدمه المصري العريق.. عبدو.. عبدو.. جاء عبدو.. ومع ذلك ظل واقفا على درج البيت حتى ركبت السيارة، لم يتحرك إلا بعدما تحركت.. رفع يده مودعا.. وتماما كما يحدث في الأفلام ذات النهاية الرومانسية، وبدوري أحنيت له رأسي، ويدي على قلبي، وقد اضطرم بالزفرات، خشية ألا ألقاه مرة أخرى..

بعد يومين هاتفته من الرياض قبل أن يعود إليها للمرة الأخيرة.. بادرني لائما: أهكذا تستعجل في زيارتك فلا تشرب الشاي؟!

في واقع الأمر.. شربت الشاي.. وشربت معه لواعج أحزاني على أجمل سنوات العمر، منذ تعرفت على غازي طالبا في كلية الآداب، وهو أستاذ مساعد للعلوم السياسية والعلاقات الدولية كلية التجارة (اسمها وقت ذاك) كان ملء السمع والبصر، حديث الوسط الطلابي والأدبي، بتجديداته الجامعية، وتحديثاته الشعرية.. وكتاباته السياسية.. كان نجمه طالعا، ومعاركه لا تهدأ، في الشعر والوزارة، وفي الرواية والكتابة، ليشكل ظاهرة وطنية فريدة.

في مجلس عزاء الرياض.. وقد تدفق المعزون عليه كالأنهار من كل صوب.. التفت إلي الصديق د. أنور الجبرتي بوجه دامع متفجع:

يا ترى.. هل جرى مثل ما أراه في مجلس عزاء آخر؟ أن يأتي المعزون.. فقراء وأثرياء.. فراشون ووزراء.. مثقفون وعلماء.. يملأهم جميعا الإحساس بفداحة المصاب.. فلا يعزون أبناء غازي.. أو أقارب غازي.. أو أصدقاء غازي فحسب.. بل يعزون بعضهم بعضا بتحسر بالغ على رجل ملأ دنياهم إنجازا، وشغلهم بإيمانه الصادق، وأدبه الحر، وفكره المستنير، ووطنيته الفذة، منذ ريعان شبابه حتى آخر يوم من حياته الكثيرة العطاء، ليرن بقوة ولمعان صداها الخالد في ضمير الأجيال:

- صدورنا منغطرة، ومآقينا دامعة.. يا أبا يارا.. وهذا عمك المتنبي يردد معنا بكل حسرة:

وما صبابة مشتاق على أمل

من اللقاء كمشتاق بلا أمل

* كاتب وعضو مجلس الشورى السعودي