فاتسلاف هافيل ضيف أم مضيف التاريخ؟

TT

يبدو لي أنه بإمكاننا تقسيم الساسة إلى مجموعتين: ضيوف ومضيفين. الضيوف هم هؤلاء الذين يظهرون على المشهد السياسي لفترة محدودة، ثم يغادرونه. وربما يبقون على المشهد لأكثر من 30 عاما، مثل القذافي ومبارك. غير أنه يكون عليهم في النهاية الرحيل، إذ يجب أن يغادروا المشهد، بالهروب مثل بن علي، أو الاختباء في جحر مثل القذافي وصدام.

بشكل عام، مآل جميع الساسة إلى التراب، لن تكون هناك صورة لهم بمجرد رحيلهم. على سبيل المثال، عندما كنت في سوريا، شاهدت الكثير من التماثيل لحافظ الأسد. كان أمرا لا يصدقه عقل، عندما كنت أقود سيارتي من دمشق إلى حمص وحماه وحلب والرقة، أبصرت تمثالا لحافظ الأسد، كان يقف منتصبا ويراقب الجميع. بعدها، كان هناك مكان آخر، حيث شاهدت تمثالا آخر لحافظ الأسد، وهذه المرة كان مكانا على تل في الصحراء، وفي تلك المنطقة النائية، لم يكن هناك أي مخلوق! مؤخرا، شاهدت مقطع فيديو يعرض إزالة تمثال حافظ الأسد من قبل جهات حكومية. استخدموا شاحنة ضخمة جدا في نقل تمثال حافظ الأسد العملاق. الكل يعلم أن مثل هذه التماثيل عديمة القيمة. تذكر كيف حطم الشباب تمثال القذافي الذهبي، وكيف أطاح الثوار برأس القذافي في طرابلس.

لقد رحل القذافي وصدام ونظراؤهما، وهذا أحد نوعي الرحيل. أما النوع الآخر من الرحيل، فيتجلى في رحيل شخصيات مثل فاتسلاف هافيل ونيلسون مانديلا ومهاتير محمد والقادة الصينيين. لقد تركت هذه الشخصيات المشهد السياسي باحترام مطلق وكرامة. وتحظى عائلاتهم بالاحترام والحب بين دولها.

يمكننا تقسيم المجموعة الثانية إلى مجموعتين فرعيتين. المجموعة الأولى تتمثل في الساسة الذين يغادرون المشهد دون أن يؤلفوا أي كتاب أو يتركوا أي إرث ثقافي، أما المجموعة الثانية، فتتمثل في الساسة الذين خلفوا لنا موروثا قيما؛ يمكننا أن نجد غذاء الفكر في موروثهم. وينتمي فاتسلاف هافيل إلى المجموعة الثانية.

دعوني أقدم لكم مثالا أجده ممتعا جدا. فكر هافيل في هذه الفئة، وسأل نفسه كيف سيرحل عن المشهد؟ وألف مسرحية رائعة تحمل اسم «الرحيل»!

كتب هافيل هذه المسرحية بعد مغادرته القصر الرئاسي. كانت الشخصية المحورية في مسرحيته رجلا يدعى ريغر. وريغر هو مستشار سابق أجبر على ترك الفيللا التي خصصتها له الحكومة، وأقيل من منصبه. لقد خلق هافيل عالما فريدا، من خلال تناقض غريب يجري مجراه داخل عقل وهوية ريغر. إنه يرغب في البقاء والاستمرار، وفي الفصل الأخير، حينما تعين عليه مغادرة الفيللا، تأخذ جدته لوحة ريغر، ولم تعلم ما الذي يمكن أن تفعله بمثل هذه اللوحة الضخمة الثقيلة وعديمة الفائدة. يصف صديقه منذ وقت طويل ريغر بصراحة شديدة.

«إنك تكذب على نفسك، أكثر مما ينبغي عليك وأكثر مما يمكنك تحمله».. (فاتسلاف هافيل، الرحيل، صفحة: 77).

كانت هذه بداية عزلة المستشار السابق. على الجانب الآخر، لدينا فاتسلاف هافيل، السياسي والمفكر والكاتب المسرحي. لقد كان رجل البر والنزاهة؛ فلا يمكننا أن نجد أي كذبة مرتبطة به على مدار حياته. والأهم أنه كان نقيا ولامعا مثل الكريستال. إن أفكاره وكلماته أشبه بمرآة تعكس الصورة الحقيقية لنا. ولهذا، أعتقد أن كل الساسة بحاجة لقراءة مسرحية «الرحيل». لأنه في أحد الأيام، إن عاجلا أو آجلا، سيكون عليهم ترك مناصبهم ومغادرة القصور التي يعيشون فيها والتخلي عن السيارات الفاخرة التي يقودونها، وهلم جرا.

سيجدون حس دعابة، لأن أصدقاءهم المقربين ومساعديهم سيغيرون طباعهم أيضا. يبدو لي أن هافيل أراد أن يصور الهوية الحقيقية للسياسة في عصرنا. إنها غريبة وغير متوقعة على الإطلاق؛ لقد شهدنا سلسلة متصلة من الأحداث التي لا يمكن تصديقها على مدار الثلاثة عقود الماضية.

وفي منعطف التاريخ، يتكثف الوقت ويتركز في النهاية. من يمكنه أن يتخيل أن شيفرنادزه، وزير خارجية الاتحاد السوفياتي السابق كان في مطار موسكو من دون أي حرس أو سيارة لتقله إلى الوجهة المقصودة، ثم أصبح من دون منصب. لقد ترك وحيدا! على الجانب الآخر من موسكو، كان غورباتشوف في الشوارع خارج الكرملين، لأن يلتسين شغل منصب غورباتشوف وأمر بعدم السماح للأخير بدخول الكرملين. مثل لعبة دومينو، شاهدنا على مر السنين الكثير من الساسة الذين أجبروا على التخلي عن مناصبهم، وكانت أيامهم الأخيرة في الحكم بمثابة مأساة موجعة. من يمكن أن ينسى منظر القذافي وهو مجرد من ثيابه وصدام وهو يقبع في حفرة عميقة ومبارك وهو ممدد على سرير داخل قفص ضخم؟

ركز فاتسلاف على هذه المسألة، وكيف ومتى يتعين على السياسي ترك مكتبه أو وظيفته. أعتقد أن كثيرا من الساسة يعانون من جنون العظمة - حالة نفسية يميزها نوع من الوهم (عرض شائع في حالة الإصابة بجنون العظمة) بأنهم أعظم وأكبر تأثيرا مما هم عليه في حقيقة الأمر. وهذه المجموعة من السياسيين تكون واقعة تحت تأثير وهم أنها ستبقى في السلطة للأبد. ومستغلا شهوة الخلود عند الإنسان، وسوس الشيطان لآدم. يقول تعالى في كتابه الكريم: «قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى»، (سورة طه، الآية 120).

منح ريغر، المستشار السابق، منصب أدنى المستشارين درجة لدى المستشار الجديد (الرحيل، صفحة: 75). وحينما كان ريغر يشغل منصب المستشار، اعتقد أن الحرية يجب أن يتم الدفاع عنها بالقوة، باستخدام جهاز استخبارات وجهاز استخبارات مضاد وقوة شرطة وقوة شبه عسكرية خاصة وفرق كوماندوز، وما إلى ذلك. اعتقد أنه سيبقى في السلطة. ومن ثم، عاش في أكذوبة طوال فترة حياته بأكملها. كانت حياته مليئة بالشكوك والكراهية والانتقام والقتل. كان لحياته طعم الموت.

على الجانب الآخر، حكم على فاتسلاف هافيل بالسجن مدى الحياة. وفي خطابه الخامس والعشرين لزوجته أولغا، كتب: «لقد اكتشفت أنه في فترات السجن الطويلة، يكون السجناء معرضين لخطر أن يصبحوا ناقمين وأن يحملوا ضغائن ضد العالم وأن تسيطر عليهم مشاعر الكآبة واللامبالاة والأنانية. إن أحد أهدافي الأساسية هو عدم الاستسلام لأي تهديدات، مهما كانت الفترة التي أحياها. أرغب في أن أظل منفتحا على العالم، وألا أنغلق على نفسي، أود أن أبقي على اهتمامي بالآخرين وحبي لهم. لدي آراء مختلفة عن أناس مختلفين، لكن لا يمكنني القول إنني أكره أي شخص كان في العالم».

وكنتيجة لطريقته المميزة في التفكير والحياة، سوف يظل فاتسلاف هافيل على المشهد أبد الدهر، في الوقت الذي وارى فيه القذافي وقادة طغاة آخرين التراب وتلاشوا كالدخان.