الوزير الفرنسي وصدام الحضارات

TT

من تابع المناقشة الأخيرة التي جرت في فرنسا ولا تزال تجري حتى كتابة هذه السطور أدرك معنى المناقشة الديمقراطية الحرة في بلد حضاري متقدم. وربما أسف لأن بلداننا العربية محرومة من هذا النوع من المناقشات الخلافية الخصبة. ومعلوم أن البديل عن المناقشة الديمقراطية هو الضرب والطعن والذبح على الهوية. فإذا لم يستطع البشر أن يتلاكموا بالكلمات فإنهم يتلاكمون بالضربات. لهذا السبب فإن مجتمعاتنا المكبوتة تنفجر بشكل عنيف لأنها محرومة من حق الكلام ولأن الضغط يولد الانفجار بكل بساطة. وهذا ما لا تفهمه أنظمة الاستبداد والانغلاق التي عفّى عليها الزمن. وإذا لم تبادر إلى تحقيق بعض الإصلاحات الراديكالية الملحة فإن الدائرة ستدور عليها قريبا. لكن عم نتحدث بالضبط؟

القصة وما فيها أن وزير الداخلية كلود غيان ألقى محاضرة أمام طلبة أحد المعاهد الباريسية العليا قال فيها ما معناه: على عكس ما تقول الايديولوجيا النسبويّة لليسار فان الحضارات بالنسبة لنا لا تتساوى من حيث القيمة. فالحضارات التي تدافع عن الإنسانية غير تلك التي تنكرها أو تحتقرها. والحضارات التي تدافع عن الحرية والمساواة والإخاء تبدو لنا متفوقة على تلك التي تقبل الطغيان ودونية المرأة والحقد الاجتماعي والعرقي والطائفي. في كل الأحوال ينبغي أن نحمي حضارتنا. انتهى كلام الوزير. ما هو الشيء المزعج في هذه التصريحات والذي أثار عاصفة من ردود الفعل في كل أنحاء الطبقة السياسية الفرنسية يمينا ويسارا ووسطا؟ بغض النظر عن السياق الفرنسي الساخن حاليا بسبب الانتخابات الرئاسية، وبغض النظر عن خوف الوزير على رئيسه ساركوزي من السقوط قريبا أمام المرشح الاشتراكي الصاعد فرانسوا هولاند، فإنه أشعل مناقشة فكرية من أعلى المستويات. بل ربما كانت المناقشة الفلسفية رقم واحد في عصرنا الراهن. اليسار اتهم الوزير بأنه استهدف بهذه التصريحات الإسلام والمسلمين في فرنسا وأنه تعمد إطلاقها في هذه اللحظة بالذات، وليست هفوة عابرة، بغية كسب أصوات اليمين المتطرف لصالح الرئيس المرشح ساركوزي. وقالوا بأن كلامه ينضح بعنصرية ثقافية واضحة إذ يقسم الحضارات إلى عليا ودنيا كما كانوا في القرن التاسع عشر يقسمون الأجناس البشرية إلى عليا ودنيا. وقالت الزعيمة الاشتراكية سيغولين رويال بأن عباراته ظلامية وخطرة لأنها تؤدي مباشرة إلى صدام الحضارات. ونحن لا نريد ذلك وإنما نريد الدفاع عن نفس القيم الكونية المشتركة لدى جميع الحضارات. وهي تتلخص في الوصايا العشر: لا تقتل، لا تسرق، لا تعتد على جارك، الخ. (بالمناسبة هذه قيم يؤمن بها الإسلام ويحض عليها كبقية أديان التوحيد من مسيحية ويهودية. وبالتالي فهناك نواة أخلاقية مصغرة موجودة في جميع الأديان). وختمت تقول إن فرنسا هي بلد حقوق الإنسان والثورة الفرنسية والشعار الشهير: حرية، مساواة، إخاء. وهي نفس القيم التي انفجر الربيع العربي من أجل تحقيقها.

أما زعيم حزب الوسط فرانسوا بايرو فقال: للوهلة الأولى يبدو كلام الوزير صحيحا ولا غبار عليه. ولكنه في الواقع خطر لأنه يستهدف ضمنيا الإسلام دون شك. وأنا أعتقد أن القائد السياسي العاقل في بلد كبلدنا ينبغي أن يتحاشى تحريض مشاعر الشعب الفرنسي ضد أجزاء كبيرة من البشرية، أي العالم العربي الإسلامي، وضد شريحة مهمة من المواطنين الفرنسيين أنفسهم والذين ينتمون إلى الديانة الإسلامية. الشيء الجديد الذي أضافه فرانسوا بايرو هو التالي: إن حضارتنا المادية تستحق النقد أيضا لأنها حولت المال إلى معبود أو إله. ويمكن أن نضيف: وبالتالي فالحضارة الغربية ليست خالية من العيوب إلى الحد الذي يتصوره السيد الوزير وفي طليعتها الأنانية وخيانة المبادئ التنويرية الإنسانية. هل من النزعة الإنسانية أن تهمش الجاليات المغتربة في فرنسا فتغرق في البطالة والفقر بعد أن أعطت زهرة عمرها لبناء فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا نستغرب ميل بعض شرائحها إلى تيار التزمت إذا كانت الدولة لا تفعل ما ينبغي لتحسين وضعها وتاليا دمجها واستيعابها؟ فليكنس السيد الوزير أمام بيته أولا بدلا من أن يتبجح ويفتخر بحضارته العظيمة!

ولكن قادة اليمين دافعوا عن الوزير قائلين: هل النظام الديمقراطي أفضل من النظام الاستبدادي أم لا؟ هل حضارة التقدم أفضل من حضارة التراجع والتقهقر أم لا؟ ألا توجد حضارات تعود إلى الوراء حاليا في حين أن كل تاريخ الشعوب يمشي نحو التقدم إلى الأمام؟ إنه لمن العجيب أن يثير كلام الوزير كل هذه الضجة والاعتراضات السلبية. إذا كان اليسار يريد إقناعنا بأن حضارة الطالبان والأصوليات الإسلامية أفضل من الحضارة الأوروبية فحلال عليه! نحن نفضل الحضارة التي تحترم حرية الضمير والمعتقد على الحضارة التي تقوم على التعصب الديني والتمييز الطائفي وتضرب عرض الحائط بكل الحقوق الإنسانية الحديثة.

ماذا نستنتج من كل هذه المجادلة؟ نستنتج شيئين أساسيين. أولا أن المناقشة الديمقراطية الخلافية تؤدي إلى توضيح الإشكالية من مختلف جوانبها. وهنا تكمن الميزة الأولى للأنظمة الديمقراطية وتكشف مدى تفوقها على الأنظمة الاستبدادية ذات الكلام الواحد والرأي الأوحد الذي يخنق كل الأصوات المعارضة.. أتمنى لو يستطيع العالم العربي أن يطرح مشكلة الطائفية مثلا بشكل حر كما تفعل الطبقة السياسية الفرنسية بالنسبة لمشكلة العنصرية. ولكن ذلك مستحيل في المدى المنظور. حتى طرح المشكلة ممنوع فما بالك بحلها؟! الشيء الثاني هو أن كلام الوزير له وجاهته لو أنه موضعه ضمن منظور تاريخي طويل المدى ولم يطلقه هكذا على عواهنه. بما أنه لم يفعل ذلك فإنه عرض نفسه لخطر الوقوع في المغالطة التاريخية وتاليا في النزعة العنصرية والعرقية المركزية الفرنسية أو الغربية بشكل عام. لو قال بأننا في الحالة الراهنة للأمور متقدمون على العالم الإسلامي ولكن الأشياء سوف تتغير مستقبلا بعد أن ينجح هذا العالم في عملية التحول الديمقراطي والتحديث السياسي والاجتماعي لما اعترض عليه أحد. ولكنه طرح كلامه في المطلق وفهم منه أن العالم الأوروبي متفوق أزليا على العالم العربي الإسلامي وسيظل الأمر كذلك إلى أبد الآبدين لأن العرق العربي عاجز عن التطور أو لأن مفهوم الدين الإسلامي يعرقل التطور ويتعارض جوهريا مع حقوق الإنسان وحقوق المرأة وكل الحريات الديمقراطية. إنه مضاد جذريا للحضارة.. بالطبع هو لم يقل ذلك صراحة ولكن يمكن استنتاجه ضمنيا من كلامه. هنا تكمن خطيئة الوزير.

هذا الخطأ يرتكبه مستشرق كبير كبرنارد لويس بل والعديد من المثقفين العرب أنفسهم. ففرنسا مثلا كانت تحتقر المرأة ولا تثق بإمكاناتها بدليل أنها لم تعطها حق التصويت إلا عام 1945 على يد الجنرال ديغول.. وفرنسا أيضا كانت متعصبة دينيا وتضطهد البروتستانتيين بل وحاولت إبادتهم عن طريق المجازر الجماعية في عهد أعظم ملوكها: لويس الرابع عشر. فهل نقول بأن فرنسا طائفية في المطلق أو همجية لأنها فعلت ذلك، كما يقولون عن الإسلام بأنه متعصب في المطلق؟ طبعا لا، بدليل أن فرنسا تطورت لاحقا واستنارت وتخلت عن تعصبها تدريجيا. فما الذي يمنع العالم العربي الإسلامي من أن يتطور هو أيضا يوما ما ويستنير ويتحضر؟ بأي حق نقطع عليه الطريق ونحكم عليه بالتخلف والتعصب إلى أبد الدهر؟

لكن يبقى صحيحا القول بأن الحضارة التي تسمح بحرية التفكير والتعبير والإبداع خير من «الحضارة» التي تقمع كل ذلك وتخاف منه. لنفكر هنا ولو للحظة فيما يحصل لفنان كبير كعادل إمام في ظل الحكم الأصولي الزاحف على مصر وربما على العرب ككل. وبالتالي فكلام الوزير الفرنسي ليس كله خطأ. ولا ينبغي أن نسقط في الديماغوجية الغوغائية كما يحصل كثيرا للأسف الشديد في عالمنا العربي. أخيرا سوف نقول كلمة واحدة حول الدين: ليس الإسلام هو المشكلة كما يتوهم معالي الوزير الفرنسي وإنما الفهم الخاطئ للإسلام، وشتان ما بينهما. عندما كان هناك فهم صحيح للإسلام، عندما كان هناك تفاعل بينه وبين الفلسفة الإغريقية، كانت هناك حضارة في العالم العربي. بل واستفادت أوروبا من هذه الحضارة وبنت عليها نهضتها المقبلة.

وعندما تم تكفير الفلاسفة وكل الشخصيات الإبداعية الكبرى في تاريخنا وتغلب الفهم الضيق المبتسر بدءا من عصر الانحطاط انهارت الحضارة العربية الإسلامية. وبالتالي رجاء فرقوا بين الدين من جهة، والتفسير السائد عنه في هذه الفترة أو تلك من جهة أخرى. أحيانا يكون هذا التفسير مستنيرا، وأحيانا يصبح ظلاميا. لماذا لم يمنع الإسلام تقدم العلم والفلسفة والانفتاح على الحضارات الأخرى إبان العصر الذهبي والأندلسي الزاهر؟ وبالتالي فالعلة ليست فيه وإنما في الفهم الخاطئ والانغلاقي له. وهو خطأ نحن مسؤولون عنه وقد أصبح عالة علينا ويسبب لنا مشكلة مع العالم أجمع. من هنا ضرورة تحقيق التنوير العربي الإسلامي بأسرع وقت ممكن مثلما حققت أوروبا التنوير المسيحي بدءا من القرن الثامن عشر، بل ومثلما حقق ذلك أجدادنا في العصر الذهبي المجيد..

أخيرا لا ينبغي أن نفهم من هذه الضجة أن الوزير غيان معاد للإسلام والمسلمين ككل. لا ينبغي أن نصنع من الحبة قبة ونبالغ ونضخم ونزيد من حدة الهيجانات ونشعل صدام الحضارات. يكفينا ما نحن فيه من مشكلات وسوء تفاهمات ولا حاجة بنا إلى صب الزيت على النار كما يقال. نقول ذلك وبخاصة أن الرجل أكد بقوة على احترامه للمسلمين الفرنسيين وحمايتهم وتأمين حق العبادة لهم وممارسة طقوسهم الدينية بشكل كامل. وفي الختام اسمحوا لي أن أستشهد بهذه العبارة الجميلة للشاعر المكسيكي الشهير أوكتافيو باز الحائز نوبل للآداب عام 1990: «كل ثقافة تتولد عن الاختلاط والتلاقي مع الثقافات الأخرى بل وعن الصدمات المزعجة والمنعشة في آن. على العكس من ذلك فإنه عن طريق العزلة والانكفاء على الذات تختنق الحضارات وتموت».

فلتتعانق إذن الحضارة العربية الإسلامية مع الحضارة الأوروبية المسيحية والعلمانية بدلا من أن تتخاصما وتتعاركا. والواقع أنهما ما انفكتا تتفاعلان وتتعانقان، وتتخاصمان وتتراضيان، على مدار التاريخ منذ أيام بغداد العباسية وحتى اليوم.