هل يستطيع هيغل أن يفسر الربيع العربي؟

TT

التقدميون السطحيون، وأنا منهم، ما عادوا يفهمون شيئا مما يحصل حاليا في العالم العربي.. هل يعقل أن تحصل ثورات تعود بنا إلى الخلف بدلا من أن تتقدم بنا إلى الأمام؟ هل يعقل أن تؤدي كل هذه الثورات إلى أنظمة إخوانية سلفية وكأنها قدرية حتمية لا مفر منها؟ نفس الشيء يتكرر من تونس إلى ليبيا إلى مصر، والحبل على الجرار.. كل ثورات «الربيع العربي» انتهت إلى نفس النتيجة.. هل التاريخ يمشي بالمعكوس في العالم العربي دون بقية العالم، ما عدا إيران بالطبع؟ فهي التي دشنت هذه الموضة العجيبة الغريبة، أي الثورات الدينية التي ترجع إلى الخلف، وذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة. وفي الوقت الذي ملت فيه إيران أو قل: مل شعبها، من المرحلة الأصولية، ويريد الخروج منها بأي شكل، إذا بنا نحن ندخلها بكل حماسة واندفاع، وكأننا ندخل عصر الحداثة والحرية والاستنارة من أوسع أبوابه! ما إن انتصرت الثورة الليبية وأطاحت بالقذافي حتى سارع مصطفى عبد الجليل إلى زف النبأ العظيم لنا: أبشروا سوف نعيد إليكم قانون تعدد الزوجات! ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ أنا شخصيا لست ضد أن نتزوج أربعا أو حتى عشرا. ولكن من يستطيع أن يتزوج بواحدة؟ لا سقف ولا راتب ولا مستقبل. الشباب العربي عاطل عن العمل في نصفه أو ثلاثة أرباعه.. وبالتالي فقبل أن تقدموا له هذه الهدية الرائعة أعطوه عملا أولا، وإلا فالانفجار أو الطوفان!

لا ريب في أن سقوط أنظمة الطغيان والفساد حدث مهم ويستحق التصفيق والترحيب. بهذا المعنى فالربيع العربي له معنى، وشكرا له كل الشكر إذ يخلصنا من هذه الأنظمة الإرهابية البوليسية التي تقتلك ما إن تفتح فمك لكي تتنفس، أو حتى قبل أن تفتح فمك! ولكن هل من الضروري أن تقطف ثمرته يانعة جنية حركات الإسلام السياسي؟ ألا توجد تيارات أخرى أكثر قربا من روح الثورة التغييرية وعبق الربيع العربي المضرج بالدم القاني؟ هل سيظل الماضي هو المستقبل، والمستقبل هو الماضي؟

هذه هي بعض التساؤلات التي يطرحها المثقف التقدمي السطحي، أي أنا بالذات.

ثم شفت غليلي فلسفة التاريخ لهيغل، وحررتني من كل الثقافة العربية «التقدمية» الماركسية الشيوعية الهشة... إلخ. كان ينبغي أن تلتقي بمفكر في حجم هيغل لكي تفهم ما يحصل حولك بالضبط. كان يلزم مفكر من العيار الثقيل، أي يرى إلى أبعد من أنفه، لكي تستطيع أن ترى شيئا وسط عتمات الضباب، قال لي هيغل: يا أخي الكريم، أنت جاهل ومغرور إذ تعتقد بإمكانية تجاوز الماضي دون فتح معركة الصراحة معه على المكشوف، ولأنك رفضت ذلك ودفنت رأسك في الرمال كالنعامات، فإن الواقع العربي نفسه نبهك إلى خطورة الأمر عندما انفجر في وجهك بفرقعات هائلة، وأصبح يهدد حتى وجود وجودك. لقد أيقظك من غيبوبتك الآيديولوجية الاستلابية دفعة واحدة، وحسنا فعل. الواقع أكثر تقدما منك وأكثر صراحة وصدقا مع الذات. عادة يكون المثقفون هم الأكثر تقدما من الواقع، وهم الذين يستشرفون آفاقه أبوابه! ما إن انتصرت الثورة الليبية وأطاحت بالقذافي حتى صار الواقع في جهة والمثقفون، إلا من رحم ربك، في جهة أخرى. إنهم يتحدثون عن كل شيء ما عدا الشيء الذي ينبغي أن يتحدثوا عنه؛ كيف تريد أن يحصل تقدم عندكم كما حصل في أوروبا مثلا أو بقية أنحاء العالم؟ لقد قتلكم شيء واحد: أنكم ترفضون أن تروا وجوهكم في المرآة، بل وتخافون أشد الخوف من ذلك. قتلكم أنكم نائمون على التاريخ ولا تريدون أن تستيقظوا وتفتحوا عيونكم. قتلك أنكم ترفضون أن تخضعوا ماضيكم التراثي لمبضع النقد التاريخي الجراح كما فعل مفكرو أوروبا من ديكارت إلى سبينوزا إلى مالبرانش ولايبنتز وكانط ومحسوبك أيضا. ثم تتفاجأون بعد كل ذلك باندلاع الحروب الأهلية وانفجار العصبيات الطائفية في وجوهكم كالقنابل الموقوتة؟ لا يحق لكم أن تتفاجأوا على الإطلاق.. عيب عليكم أن تتفاجأوا.. هل مررتم بالمرحلة التنويرية كما فعل العالم المتحضر لكي تتفاجأوا؟ بل وتتهمون الغرب والاستعمار وإسرائيل بأنهم السبب في ذلك! لا ريب في أن عدوكم سوف يستغل هذه الثغرات والتناقضات لتمزيقكم ولكنه لم يخترعها، وإنما هي موجودة في تاريخكم منذ مئات السنين، ولولا ذلك لما كان استغلالها ممكنا، وفعالا، أصلا. أنتم لم تتحرروا بعد من عقد الماضي ورواسبه التاريخية المتراكمة، بل وترفضون حتى الآن طرح أدنى سؤال على شخصيتكم التاريخية وأعماقكم التراثية. أنتم ختمتم العلم من زمان ونمتم نومة أهل الكهف على أمجادكم الغابرة. ومن ختم العلم قبل ألف سنة؛ هل هو بحاجة إلى مواكبة التطورات وآخر الفتوحات والنظريات؟ وإذن فأنا أقول لكم: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. عودوا إلى رشدكم، عودوا إلى مقاعد المدرسة الابتدائية من جديد، وانسوا كل ما تعلمتموه سابقا لكي تتعلموا ما فاتكم وهو كثير. فلا عيب في التعلم والتواضع. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.. سوف تكتوون بنار النظام الإخواني الأصولي لفترة من الزمن لا يعرف إلا الله مداها، قبل أن تتحرروا منها لاحقا. ينبغي أن تمروا بها لكي تتجاوزوها؛ لا يوجد حل آخر، وهذه هي مهمة العامل السلبي في التاريخ، فهو أخطر بكثير من العامل الإيجابي وأكثر أهمية. وأصلا لولا السلب لما كان الإيجاب، لولا الخطأ لما كان الصحيح. سوف تخوضون مع بعضكم بعضا حربا ضروسا حتى يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لا يمكن أن تؤجلوا هذه المعركة إلى ما لا نهاية. هذا هو ديالكتيك التاريخ أو قانونه الأعظم الذي اكتشفته قبل مائتي سنة على الأقل؛ العامل السلبي ضروري لكي يحصل التقدم والانفراج يوما ما. تداويت منها بها، بل إنكم لستم بحاجة إلى هيغل لكي تفهموا ذلك، تراثكم العبقري يكفي: وداوني بالتي كانت هي الداء.

بعد أن سمعت خطاب هيغل الذي أراحني نفسيا وحل عقدي المتراكمة تنفست الصعداء، ولم أعد محبطا كما في السابق. صحيح أني مرعوب من حجم المهمة الثقيلة المطروحة علينا مستقبلا. صحيح أني أخاف من الملفات التاريخية الساخنة، الملفات المطموسة، أخاف من حالي. ولكني على الأقل أصبحت أعرف ما أريد وما لا أريد، ثم زاد من سعادتي أني منخرط حاليا في ترجمة أول كتاب لمحمد أركون يصدر بعد موته بالفرنسية والعربية في آن معا، فهنا تجد الفكر المضيء، الفكر الذي يحفر أركيولوجيا في أعماق التراث. إنه يحررك من شرورك، من جذورك الدفينة، من أعماق أعماقك. إنه يدخلك في أكبر مصارحة، في أكبر مقارعة، للذات التراثية العربية الإسلامية مع ذاتها. لقد انتهى عصر الآيديولوجيات الاستلابية، والمراهقات الثورية، والطفولات العقلية.