هل يمكن تشخيص المرض العربي؟

TT

كلنا يتخبط الآن ولا أحد يعرف كيف يجد منفذا أو مخرجا. فما السبب يا ترى؟ السبب يعود إلى أن أساس المشكلة فكري وليس سياسيا. وبالتالي فإذا لم تحسم المسألة فكريا فلن تحسم سياسيا حتى ولو بعد مليون سنة! وهذا ما لا يريد أن يفهمه السياسيون العرب؛ سواء أكانوا في السلطة أم في المعارضة. ولكن الأنكى من ذلك والأخطر هو أن المثقفين العرب لا يريدون أن يفهموه أيضا. فإذا كان المثقف عاجزا عن تشخيص المشكل فكيف يمكن للسياسي أن يحله؟ هذا وقد هلل الكثيرون لـ«الربيع العربي»، وعلقوا عليه الآمال وأنا من بينهم دون أن يدركوا أنه قد يكون ربيعا سياسيا، ولكنه بالقطع ليس ربيعا فكريا. والدليل على ذلك أنه تمخض عن سيطرة «الإخوان» والسلفيين في كل مكان. فهل الأصولية الدينية ربيع فكري؟ هل التراجع إلى الوراء هو تقدم إلى الأمام؟

لكن متى سيحصل الربيع الفكري للعرب؟ ليس في المدى المنظور على ما يبدو. وهنا تكمن المشكلة الأساسية، ذلك أن من يقرأ بحر المقالات المتدفقة كالسيل الهادر يلاحظ أن معظم المثقفين، ولا أقول كلهم، يتحاشون المشكلة الأساسية: أي مشكلة التنوير الفكري للعرب والمسلمين عموما؛ لماذا أصبح الناس يفكرون بالحل الفيدرالي أو حتى بالتقسيم؟ لأنهم ابتدأوا يخافون من بعضهم بعضا، وبالأخص من سيطرة العنصر الإخواني السلفي التوتاليتاري على البلدان العربية كلها. وهي آيديولوجية لا تقر بالمساواة بين البشر.

هذا أقل ما يمكن أن يقال، لكن ينبغي الاعتراف بأنها تتمتع بمشروعية تاريخية تخترق القرون، من هنا حراجة الموقف وصعوبته وتعقيده، من هنا تخبطنا جميعا لتوضيح الإشكالية.. سوف أطرح هذا السؤال البسيط: من هو الإنسان الشرعي الكامل الحقوق في العالم الإيراني؟ إنه الفارسي المسلم الشيعي. إنه إنسان ثلاثي الأبعاد أو المكونات. لكن ماذا نفعل بكل مكونات الأمة الإيرانية الأخرى؟ فقد يكون الإيراني فارسيا مسلما ولكنه ليس شيعيا، وهذه حالة نسبة لا يستهان بها من السكان، أو قد يكون مسلما شيعيا ولكنه ليس فارسيا. وهذه أيضا حالة شرائح كثيرة من السكان. ويبدو أن التعريف الكامل للإنسان الشرعي لا ينطبق إلا على أربعين أو خمسين في المائة من الشعب الإيراني.

والآن لننتقل إلى الجهة الأخرى، أي جهتنا نحن. من هو الإنسان الشرعي الكامل الحقوق في العالم العربي؟ إنه العربي المسلم السني. هنا أيضا نلاحظ أنه إنسان ثلاثي الأبعاد والمكونات، ولكن ماذا نفعل بالبقية؟ ماذا نفعل بكل أولئك الذين لم تشأ الصدفة أو الحظ أن يولدوا في المكان المناسب؟ ماذا نفعل بالأكراد في المشرق وهم مسلمون سنة ولكنهم ليسوا عربا. أو ماذا نفعل بالأمازيغ البربر في المغرب الكبير الذين هم أيضا مسلمون سنة في معظمهم ولكنهم ليسوا عربا. لحسن الحظ، فإن الدستور المغربي الجديد اعترف لأول مرة بحقوقهم واعتبرهم في ديباجته الأولى أحد المكونات الأساسية للشعب المغربي.

بالمقابل: ماذا نفعل بالإنسان العربي، ولكنه ليس مسلما؟ وهذه حالة كل المسيحيين العرب، وهم يعدون بالملايين خاصة في مصر وبلاد الشام والعراق. ألم يكن «الإخوان» في الخمسينات أو الستينات يرفعون الشعار التالي: مسلم في باكستان ولا مسيحي في لبنان؟! هل تخلوا عنه الآن يا ترى؟ لكن يبدو أن الأخطر من كل ذلك حاليا هو الانقسام المذهبي داخل الإسلام نفسه: أي أن تكون مسلما عربيا ولكن ليس سنيا. وهذا الأمر ينطبق على كل الطوائف الشيعية العربية من إمامية وعلويين وإسماعيليين ودروز. كما ينطبق على المسلمين الإباضيين لكيلا أقول الخوارج (وهي تسمية سلبية ظالمة لا أحبها، وقد ابتدعها خصومهم).

لماذا يبدو الانقسام المذهبي داخل المسلمين العرب أخطر من أي انقسام آخر، على الأقل حاليا؟ لقد وصل الأمر ببعضهم إلى حد القول إن الصراع السني - الشيعي أخطر حتى من الصراع العربي - اليهودي! بالطبع في الأمر مبالغة. ولكن مجرد طرح الأمور على هذا النحو يدل على مدى خطورة هذا الانقسام ليس في مصر وبلاد أفريقيا الشمالية حيث لا وجود له تقريبا، وإنما في سوريا ولبنان والعراق واليمن والخليج العربي عموما. السبب على ما يبدو هو أن الانقسام داخل الدين الواحد أخطر من الانقسام داخل دينين مختلفين.

لنفكر هنا ولو للحظة بالانقسام الكاثوليكي - البروتستانتي الذي دمر فرنسا وألمانيا وإنجلترا وأوروبا طيلة قرون.. بمعنى آخر فإن الانقسام داخل العائلة الواحدة شيء مرعب. وهذا الأمر لا يزال مستمرا منذ الفتنة الكبرى التي لم يستطع الفكر الإسلامي، ولا الفكر العربي تجاوزها حتى الآن. ما العمل أمام كل هذه الانقسامات التي تنفجر الآن في وجوهنا كالقنابل الموقوتة وتهددنا بالتقسيم والحروب الأهلية وأفدح الأخطار؟ كلما رقعناها من جهة فتقت من جهة أخرى!

هناك اتجاهان للحل: الاتجاه الأول هو الكذب على الذات واستخدام اللغة الخشبية الديماغوجية للسياسيين العرب، سلطة كانوا أم معارضة. يقولون لك بكل صفاقة ولا مسؤولية: يا أخي شعبنا غير طائفي. يا أخي شعبنا ملائكي. بمعنى أنك عندما تتحدث عن هذه الأشياء فإنك تهجو الشعب! يا أخي هذه أشياء زرعها الاستعمار فينا، إلخ.. بالطبع، لا خير يرجى من هؤلاء. فهم لا يعترفون بوجود المشكلة؛ فكيف يمكن أن يحلوها؟ يضاف إلى ذلك لغة المزايدات الانتهازية المبتذلة التي تفوح منهم، والتي لم تعد تقنع أحدا. والاتجاه الثاني يتمثل بالمصارحة التاريخية والتنوير الديني والفلسفي، وهو الطريق الأصعب والأطول ولكنه الأنجع. كل ما تحاشاه الفكر العربي سابقا ينبغي أن يصبح الآن موضع نقاش حر؛ لماذا استطاع المجتمع الأميركي أن يحل هذه المشكلة ولا نستطيع نحن؟ لأنه مجتمع ديناميكي قوي واثق من نفسه ثم لأنه مجتمع مستنير في شرائحه الأوسع.

هل نعلم بأن جون فيتزجيرالد كيندي طرح مشكلة حقيقية عندما رشح نفسه للانتخابات الرئاسية؟ وذلك لأن الإنسان الشرعي الكامل الحقوق في أميركا هو أيضا ثلاثي الأبعاد. إنه الإنسان الأبيض، الأنغلو ساكسوني، البروتستانتي. اثنتان من هذه الصفات الثلاث كانتا متوافرتين في كيندي ولكن ليس الثالثة، فقد كان كاثوليكيا في بلاد تنتمي في أغلبيتها إلى المذهب البروتستانتي. ولكنه استطاع التغلب على هذا النقص الذي لا حيلة له فيه بفضل جاذبيته التي لا تضاهى وقوة شخصيته، ثم بفضل استنارة الشعب الأميركي أو على الأقل قسم كبير منه. ثم بفضل الدستور الأميركي الذي ينص صراحة على العلمانية، ولكن ليس على الإلحاد! أما أوباما فقد طرح مشكلة أخطر؛ فقد كان مسيحيا بروتستانتيا ولكنه أسود! وبالتالي «فجريمته» أكبر بكثير من كيندي، إذا جاز التعبير. ومع ذلك فقد استطاع المجتمع الأميركي المستنير أن يبلعها ويتجاوزها. باختصار شديد، وهنا أختتم المقال الذي طال: لن نخرج من مأزقنا وتخبطنا إلا بعد أن يتشكل لدينا فكر تنويري جديد تتسع أحضانه للجميع دون استثناء. عندئذ سوف يطل علينا الربيع العربي يختال ضاحكا.

وهذا الفكر لن يتشكل إلا بعد أن يتفكك الفكر القروسطي القديم السائد والراسخ منذ مئات السنين. وهو فكر مليء بالأفكار العنصرية التمييزية والطائفية التكفيرية، ولكن هذه صيرورة معقدة لا يمكن أن تحصل بين عشية وضحاها، وإنما سوف تستغرق سنوات كثيرة ومناقشات هائلة. نعم، إن التنوير العربي الإسلامي آت لا ريب فيه!