هزيمة استراتيجية ومأزق تكتيكي!

TT

من غرائب السياسة السورية أن النظام أقنع نفسه أكثر من مرة بأن الأزمة انتهت، وعبر عن قناعته على لسان أكثر من مسؤول رفيع، بمن في ذلك رئيس الجمهورية نفسه، الذي أخبر كثيرين من زواره، كان أبرزهم رئيس وزراء لبنان الأسبق الدكتور سليم الحص، بأن سوريا اجتازت أزمتها والحراك الشعبي صار وراءنا.

لا أعرف طبيعة الاستشارات والتقارير التي يتلقاها في العادة رئيس دولة، خاصة عندما تكون في حالة حرب مع شعبها، لكن الوقائع تعلمنا أن ما تلقاه الرئيس بشار الأسد من تقارير وحصل عليه من استشارات كان خاطئا ومضللا، وأن الوضع السوري لم ولن يهدأ، لسبب رئيس هو أن العنف اعتمد علاجا لأزمة يستحيل أن ينجح في التصدي لما كان المرحوم صلاح البيطار، أحد مؤسسي البعث ورئيس وزراء ووزير خارجية سابق، قد سماه ذات يوم من عام 1980: «المرض السوري المزمن»، وجوهره افتقار السوريين إلى الحرية وخضوعهم لنظام مغلق وضيق الصدر وعنيف وفاسد، لا يناقش أحدا ولا يسمح لأحد بمناقشته، دأب على إلغاء السياسة وحل مشكلاته بالعنف العاري والقمع المكثف، منذ استلم السلطة عام 1970 وحتى اليوم.

هذا الخيار الاستراتيجي السيئ، حكم على النظام بخسارة معركته ضد شعبه: فهو إن نجح في قمعه واستعاد ما يسميه الهدوء، ضيّع نجاحه شرعيته دون أن يترك له أي فرصة لاستعادتها، وصل إلى حال تجبره ملابساتها الكثيرة على تقديم شيء للشعب خاض معركته كلها من أجل الحيلولة دون حصوله عليه، مع ما يمكن أن يقود إليه ذلك من اندلاع ثورة جديدة بعد فترة، ولكن على نطاق أوسع وأكثر مجتمعية وجذرية من الثورة التي سيكون قد تمكن من احتوائها، بينما يرجح أن يحدث انتصاره مراجعات داخلية لسياساته وخياراته، ستجبره بدورها على تغيير آليات عمله وستضعه في مواجهة شعب راغب في الانتقام منه، هذا بافتراض مستبعد جدا، هو نجاحه ذات يوم لا يبدو قريبا في القضاء على آلاف المجموعات المسلحة والشديدة التطرف، التي ستنشر القتل والرعب في كل مكان وستصفي الموالين له، وستحول المعركة ضده إلى فعل انتحاري لا ضير إن هو أدى إلى قتل الذات ما دام يقتل الآخر: صديق النظام وتابعه. هذا ما عنيته بالحديث عن الفشل الاستراتيجي: إنه ذلك النوع من الفشل الذي لا يمكنك من حل أزمتك، فإن أنت أحرزت أي تقدم فيها، حال بينك وبين الخروج منها، ونقلها إلى طور جديد يعمقها ويعقدها ويضيف مكونات وعناصر جديدة ومتنوعة إليها، تبقيك أسيرا لها وفي دائرة الخطر.

والمشكلة أن هذا الفشل الاستراتيجي يترجم نفسه على الأرض من خلال مآزق تكتيكية، أو بالأحرى مأزق تكتيكي مديد ومتشعب لا مخرج منه، يجسده في الصراع السوري الراهن فشل النظام في استعادة أي بلدة أو قرية عرفت مظاهرات ضده، رغم أنه قد يكون أعاد احتلالها عشرات المرات، كما حدث في القصير وتلبيسة والرستن وحمص، وإدلب وريفها، ودير الزور وريفها، ودرعا وحوران بأسرها، وضواحي دمشق الداخلية وريفها، وقسم كبير من حلب ومجمل ريفها.. الخ. في الترجمة التكتيكية للفشل الاستراتجي تتحول السياسة الرسمية إلى أعمال عنف منظم وواسع ضد الآمنين من السكان، تمليها على النظام فرضية «المجموعات المسلحة»، المعادية للسلطة والناشطة وسط المواطنين، وهي فرضية تضع هؤلاء وراء هذه المجموعات وتوهم النظام بأن القضاء عليها رهن بالقضاء عليهم أو على قسم كبير منهم، وبأن ترويعهم وتهجيرهم واعتقالهم وتعذيبهم وتدمير مقومات وجودهم المعنوية والمادية هي الحل. أما أهم الأدلة على استعصاء هذا المأزق فهو قدرة النظام على العودة إلى أي مكان يريده من سوريا، وإن بصعوبات تتعاظم من يوم لآخر، واستحالة بقائه فيه بسبب عمق واتساع حركة التمرد عليه، وحجم المقاومة التي تواجهه في كل مكان، واضطراره إلى نقل قواته من مكان إلى آخر، مع ما أخذت تتكبده من خسائر على الطريق، وعندما تصل إلى المكان الذي ستهدئه، ثم وهي في طريق الانسحاب منه. ولعل خير مثال على هذا المأزق التكتيكي القصف اليومي المتجدد لحي الإنشاءات في حمص، الذي كان النظام قد أعلن تحريره وتطهيره من «العصابات المسلحة» ونظم احتفالات شعبية بذلك؟. لم يتمكن النظام من البقاء في الحي، لحاجته إلى قواته في مكان آخر، علما بأن النقطة التي ينسحب جيشه وأمنه منها لا تبقى تحت سيطرته بل تنتفض وتثور عليه، فيقصفها ويعيد احتلالها وهكذا دواليك!. كيف يواجه النظام هذه المعضلة؟. بتصعيد العنف، مع ما يؤدي إليه من نشر نيران التمرد التي يحملها جيشه وأمنه معهما من موقع لآخر، وتعميق طاب الحراك العدائي وتسليحه، وبالتالي زيادة قدرته على المقاومة وإنزال الخسائر بهما.

أمام هذه الحلقة الجهنمية المغلقة، وأمام الفشل الاستراتيجي والمأزق التكتيكي تبرز ظاهرة سياسية قاتلة، هي أن القيادة السياسية تزداد تمسكا بالحل الأمني، وتركز جهودها على توسيعه وزيادة حجم العنف فيه، رغم علمها بنتائجه على علاقاتها مع الشعب، بينما يحار عسكرها في فهم أسباب فشلهم في السيطرة على وضع يملكون فيه تفوقا عسكريا ساحقا على شعب شبه أعزل، يرفض بإصرار العودة إلى بيت الطاعة الرسمي. إنهم لا يفهمون أن الشعب انتقل إلى ما بعد نظامهم، إلى موقع لم يعد موقعهم وموقع قيادتهم السياسية، ودخل في حقبة ما بعد الأمر الرسمي القائم، الذي يدافعون عنه بفشل متعاظم!. والغريب، أن هؤلاء العسكر، الذين يقال إنهم ينتمون إلى جيش عقائدي، لا يستخلصون العبر السياسية من فشلهم، بل يميلون غالبا إلى الرد على الإخفاق بتدابير عسكرية محض تقنية لا تسمن ولا تغني، مع أن مصير الصراع ومصيرهم يتوقف على خروجهم من الإطار السياسي القائم، الذي يفرض عليهم الفشل الاستراتيجي والمأزق التكتيكي!.

يصعد النظام هجماته ويحولها إلى حرب على الشعب. ويقال: إن الرئيس أمر الجيش والأمن بحسم المعركة خلال عشرة أيام. قبل ذلك، في أغسطس (آب) من عام 2011 المنصرم، أعلن النظام أن المعركة صارت في «أسبوع الحسم الأخير». واليوم، وبعد قرابة عام على انقضاء هذا الأسبوع يكرر النظام أخطاءه ويرفض رؤية الواقع على حقيقته، والإقرار بأن الشعب صار في الحقبة التالية له، وأن إعادته إلى بيت الطاعة صارت ضربا من المحال، وأن الحل الأمني يزيده تصميما على استكمال خروجه منه، بدل أن يجبره على قبول المحال: الرضوخ من جديد له!