تنبهوا واستفيقوا!

TT

ليس هناك في الوجود الإنساني والسياسي كله بلاء يفوق في شناعته ومآسيه بلاء الطائفية. وعلى عكس ما يعتقد الجهلة، ليست الطائفية مستوى متدنيا في فهم الدين، بل هي النقيض الذي يقوضه من داخله، يأخذ صورة خطاب يضمر بعض مفرداته، لكنه لا يمت إلى روحه وجوهره بصلة، بل هو، كما قلت قبل قليل، نقيضه المباشر وعكسه، فالدين رحمة والطائفية هلاك، والدين هدى والطائفية ضلال، والدين إلهي والطائفية شيطانية، والدين لجميع الناس والطائفية ضد جميع الناس، والدين حياة وتفتح وحرية، والطائفية قتل وانغلاق وعبودية.

ليست الطائفية من الدين في شيء، مع أن أتباعها يتوهمون أنها أفضل تعبير عنه، ويعتقدون أن تعصبهم وتزمتهم وعداءهم للآخر والمختلف، واستعدادهم لشطبه من الحياة والوجود، مقومات دينية وضرورية لحفظ الدين، بينما الواقع يقول إن الطائفية بما تنتجه من تعصب تفرغ الدين من جوهره الإلهي / الإنساني وتحوله إلى آيديولوجية تمييز وفتك بالبشر: بالآخر أولا ثم بالمختلف، فهي فئوية عصبوية ومغلقة تحدث الفوضى، التي تنقلب عند اتساعها إلى حرب أهلية يقتل فيها الأخ أخاه.

وقد ابتلي النظام في سوريا بهذا المرض العضال، الذي اسمه الطائفية، لأنه عجز عن كسب تأييد الشعب، فقرر الاعتماد على فئات ما دون مجتمعية وضعها في مواجهة بقية مجتمعها. ومع أنه فشل إلى اليوم في قلب مطلب الحرية، الذي يجمع السوريين، إلى فتنة طائفية تفرقهم وتدفعهم إلى الاقتتال، فإنه مصر على هذا المسعى الشيطاني، بينما يوجد بالمقابل سوريون انساقوا وراء الطائفية إلى حدود الإجرام القصوى، وهم لا يعون أنهم يساعدون النظام على ضرب التماسك المجتمعي، الذي يبدو بوضوح في وقائع وأمثلة كثيرة، ولو أخذنا أحداث «الحفة» كواحد من هذه الأمثلة، لوجدنا ما يلي: مقاومون يوزعون منشورا على أهالي القرى العلوية القريبة من المدينة تخبرهم أن معركتهم ضد السلطة وليست ضدهم، وأنهم كانوا وسيبقون إخوة أعزاء، وجزءا تكوينيا من النسيج الوطني السوري الواحد، وأن ما يقع في سوريا اليوم لن يغير هذه النظرة ولن يبدل علاقات الأخوة والتعاون بين أهل المنطقة من مختلف المذاهب والأديان. بعد المعركة وتهجير أهل المدينة، اعترض بعض الشبيحة من علويي المنطقة بعض أهل «الحفة»، فتصدى لهم شيوخ علويون دعوا المهاجرين لأن يحلوا ضيوفا عليهم، ولأن هذا ما حدث، هناك اليوم مئات الأسر المسلمة السنية في ضيافة إخوتهم المسلمين العلويين، جريا على عادة المنطقة ومألوفها التاريخي، حيث عاش الناس في ألفة وتحاب، ولم يعرفوا أي خلافات جدية: طائفية كانت أم غير طائفية.

هذه الواقعة المشرفة، التي تؤكد ترابط الشعب السوري ووحدته، لا يراها من أعمت الطائفية أبصارهم، فتراهم يحرضون على قتل المختلف إلى أي مذهب أو دين انتمى، لمجرد أنه مختلف، بغض النظر عن سلوكه وأفعاله، ومهما كان صادق الود حيال أتباع المذهب أو الدين الذي ينتمي الطائفيون إليه. وقد هاتف أحد الطائفيين أحد أصدقائي قبل أيام ليقول له: إذا كنت غير طائفي، فأنا أطلب إليك حذف اسمي من «سكايب» و«فيس بوك» لديك، وإياك أن تكلمني بعد الآن. في مثال «الحفة»، وصلت الروح الوطنية وروح الأخوة بين أبناء الشعب إلى أعلى ذراها، وهنا، في هذا المثال، تصل الطائفية إلى أعلى درجات العمى والتعصب، فتنفي الوطنية وتقطع حبل التواصل بين الناس، فالطائفي يريد من شخص ينتمي إلى مذهبه أن لا يعاود الاتصال به، لأنه غير طائفي مثله ويرفض كراهية وقتل المخالفين له في المذهب والدين. هذا العقل الطائفي مجرم، يستخدم كلمة اقتلوا على الطالع والنازل، ويوجه أمر القتل إلى الجماعة التي ينتمي إليها، لاعتقاده أن كل فرد فيها مثله، يخفي سكينا وراء ظهره استعدادا لطعن المغاير والمختلف، الذي لا حق له في الحياة.

انتشرت الطائفية خلال الأشهر الأخيرة انتشارا مفزعا في سوريا، من جهة لأن النظام كان يفضل مواجهة طائفيين على مواجهة أحرار، ومن جهة لأن هناك قوى سياسية لا برامج لديها، لذلك تخاطب غرائز الانحطاط والعنف والعداء للغير لدى الإنسان العادي، الذي لم ينل أي قسط من المعرفة المنظمة والفكر المنهجي، ويضج رأسه بالأحكام المسبقة والعواطف المتوترة والتعبوية، السهلة التوجيه والاستخدام على يد أي فئة غوغائية، فما بالك إن هي تدروشت ولبست لبوس الإيمان والدين، والتقى والورع، وأخفت مقاصدها الحقيقية، وقدمت نفسها للإنسان العادي في صورة فئة نزيهة لا تريد غير مرضاة الله؟.

لا يستطيع أحد جمع النقيضين: الحرية والطائفية. ولا يستطيع الإنسان أن يكون حرا وطائفيا في آن معا. إن من يعتنقون اليوم مفاهيم طائفية، ويرون في معركة سوريا الحالية معركة بين السنة والروافض لم يعودوا أنصارا للحرية أو طلابا لها، بل هم أعداؤها، الذين يساعدون النظام من حيث لا يدرون على وأدها وقتلها في المهد. لهذا السبب، يجب اعتبار الطائفي عدوا لحرية الشعب السوري مهما كان دوره في الحراك وكانت قدرته على الكذب والتلاعب بعواطف الناس. أما الحر فهو عدو الطائفية، مهما كانت مبرراتها ومسوغاتها. فلا حرية مع الطائفية ولا طائفية مع الحرية: من يومنا هذا وإلى أبد الدهر!.

هذا ما يجب أن يعيه جميع السوريين ويعاهدوا الله وشعبهم وأنفسهم على التمسك به، وهذا ما عليهم زرعه في أغوار أرواحهم وصميم عقولهم، إذا أرادوا أن يبقوا طلاب حرية ومناضلين في سبيل وطن واحد وشعب موحد، وأن ينتصروا في معركتهم الراهنة. لقد آن الأوان للخروج من عفن الطائفية التي يغذيها النظام وبعض خصومه الذين يخدمونه من حيث يريدون أو لا يريدون، يدرون أو لا يدرون، ويضمون في النهاية حقدهم إلى حقده، لقتل وحدة الشعب ودفن حلم السوريين جميعهم في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.

لا للطائفية، نعم لحرية. لا للموت، نعم للحياة. لا للحقد، نعم للتسامح ويد الإخاء والمحبة الممدودة بالخير إلى الجميع. لا للانتقام، نعم للذاكرة الجمعية المباركة التي ترى الآخر شريكا في وطن ورفيقا في مصير، وتحرص عليه لأن أي ضرر يلحق به هو إيذاء للذات أيضا، ولأن أي تفريط بحقوقه هو تخل عن حقوق الجميع، ولأننا نحن السوريين كنا وسنظل جسدا واحدا تنوعه أجمل ما فيه، وأعظم دليل على حاجته بعضه إلى بعض. ألم يقل فيلسوف حكيم ذات ماض بعيد: سوريا هي الوطن الثاني لكل إنسان على هذه الأرض. فكيف لا نستميت من أجل جعلها الوطن الأول والأخير لكل واحد من مواطنيها، إلى أي دين أو مذهب انتمى؟