نموذج الثورة السوري!

TT

عرف العرب نموذجين من الثورة المسلحة: الجزائري، الذي قام على وجود تنظيم واحد لا شريك له، ويمنع بالقوة وجود أي تنظيم إلى جانبه، مثلما يرفض أي خلاف معه أو اختلاف عنه. والفلسطيني، الذي كان عكس الأول وقام على تعدد التنظيمات وتعايشها، ضمن ما كان ياسر عرفات، قائد الثورة الراحل، يسميه: الديمقراطية الفلسطينية، أو ديمقراطية البنادق الفلسطينية.

استند النموذج الأول على واحدية التنظيم والتفكير، فكان قيامه بداية نهاية كل ما كانت الساحة الوطنية الجزائرية قد عرفته من أحزاب وهيئات ومنظمات، وبدء تأسيس حياة سياسية ربطت كل شيء بقيادة العمل النضالي المسلح، الذي تبنته «جبهة التحرير الوطني» الجزائرية، بعد أن كانت قد تخلقت في سياق كفاح سياسي متشعب بدأ في عشرينات القرن الماضي، وأدى اختناقه استعماريا إلى هجر فكرة السياسة والحزبية السياسية كأداة للتحرر الوطني من استعمار استيطاني متجذر في أرض احتلها طيلة قرن وثلث القرن، يصعب اقتلاعه بالعمل السلمي من بيئة تعرضت خلال هذا الزمن المديد لتغيير طاول طابعها الوطني بطريقة أرادت تغيير هوية المواطن الجزائري، فكان من المفهوم أن تأخذ الثورة طابعا اقتلاعيا يجتث الدخيل من الأصيل، والأجنبي من نسيج وطني تاريخي مجاف له. لا عجب أن جوبه عنف الواقع الاستعماري بعنف وطني شامل رفضت أداته النضالية المسلحة وجود أي تنظيم آخر إلى جانبها، لاعتقادها أن التعددية تشجع الانقسامات والتناقضات داخل الصف الوطني، التي لا يفيد منها أحد غير العدو الوطني المشترك، وتضعف الثورة وبالتالي فرص تحرر سيأخذ بالضرورة شكل انسلاخ عن جسدية أجنبية راسخة ومزودة بأفضل وأحدث الأسلحة.

قام النموذج الثاني، الفلسطيني، الذي واجه بدوره عدوا استيطانيا اقتلع الشعب الفلسطيني من وطنه بالقوة وأحل غرباء محل شعب البلاد الأصلي، على تعدد تخطى التنظيمات الحزبية السلمية المعروفة بأن أضاف إليها جميعها ذراعا مسلحة أو حولها بكاملها إلى ذراع كهذه، أراد للدولة الفلسطينية أن تنبثق منها، ورأى فيها مكونات أولية تكمن في هيكليتها دولة تحرر وطني مستقلة وسيدة ستنشأ بالضرورة منها، وستكون محصلة لها، فالتنوع يعني هنا التكامل الخلاق ولا يعني التناقض المضعف والمفتت، كما كان يعتقد في الحالة الجزائرية.

هل نجح النموذج الجزائري لأن التنظيمات السياسية والحزبية الوطنية لم تمثل عقبة جدية أمامه، ونجح التنوع في النموذج الفلسطيني لأنه كان موجودا قبل الثورة، وفي صورة منظمات مسلحة استقلت عن أحزاب عربية أو أسهمت في تأسيسها؟ مهما كان الرد، لم تشهد الساحة الفلسطينية تناقضات عدائية بين منظماتها تفضي إلى صراع عنيف، إذا ما استثنينا تلك المنظمات الواهية التي ارتبطت بأجهزة أمن عربية كتنظيمي الصاعقة البعثي السوري وتنظيم جبريل، المنشق عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي تحول إلى منظمة أمنية سورية ذات مهام داخلية وصار من الصعب اعتباره تنظيما فلسطينيا؟

يوجد اليوم في سوريا نموذج مختلط يجمع بصورة مشوهة بين النموذجين السابقين، فالمجلس الوطني يرى في نفسه «جبهة تحرير وطني» من الطراز الجزائري، لذلك عمل ويعمل على إقصاء واستبعاد غيره من منظمات المعارضة وشن عليها حملات تخوين عنيفة شوهت سمعة مناضلين ديمقراطيين حقيقيين تعرضوا لأسوأ أنواع البطش والقمع الرسمي عندما كان قادة المجلس ينعمون بالأمن والسلام في مهاجرهم، ولم يكن لهم أي وجود في النضال السوري المعارض. ولكن، ونظرا لوجود تنظيمات سورية أخرى معارضة، ولأن المجلس يفتقر تماما إلى القدرة على إبعادها عن العمل العام، فإنه يجد نفسه في موقف مليء بالتناقضات والمفارقات: من ذلك أنه يرفض التعاون معها تنظيميا ويقاوم العمل معها سياسيا، لاعتقاده أن ذلك يمس بتمثيله للمجتمع السوري. بالمقابل، يجد المجلس نفسه مجبرا بصورة متعاظمة على الإقرار بأنه ليس الجهة الوحيدة التي تعمل في الحقل العام السوري وتؤثر فيه. إلى هذا، طرح قادة المجلس حلا اقتصر على دعوة من ليسوا فيه إلى الانتساب إليه، ضمن نسب تمثيل عينها هو، بما أن الآخرين لم يقبلوا هذه الطريقة ولم يتفاعلوا معها بإيجابية، فقد مثل وجود المجلس مشكلة حقيقية وتحول إلى استعصاء سياسي يصعب تخطيه بدل أن يكون هو الحل. والغريب أن قادة المجلس ظلوا مصرين على تمثيل السوريين: على كونه التنظيم الوحيد الذي يعبر عنهم ويجسد ثورتهم، على الطريقة الجزائرية، بدل أن يقروا بالتنوع القائم فعلا ورغما عنهم، على الطريقة الفلسطينية، ويقيموا علاقات تشبه ما يقوم بين إخوة تضمهم أسرة واحدة، لا مصلحة لهم في الشقاق والصراع، وإنما توحدهم تربية متقاربة وأخلاقيات وأهداف موحدة، وتجمعهم حاضنة عامة هي البيت المشترك - الوطن الذي فيه نشأوا ويعيشون. هذا النموذج العملي والمنطقي، الذي صمد خلال عقود أمام حرب صهيونية ضارية على فلسطين، ونجح في تخطي مختلف أنماط التآمر على القضية الفلسطينية، وحفظ وحدة الشعب المشتت في أربع أقطار الأرض، وضمن له حدا من القوة والحراك السياسي والعسكري جعله رقم المعادلة الشرق أوسطية الصعب، كان يمكن اعتماده في سوريا، لبلوغ حال من التفاهم والتعاون والتنسيق داخل المعارضة تتخطى فكرة التمثيل قليلة الأهمية، وتفضي إلى تأسيس منظمة وطنية تشبه منظمة التحرير يقودها تنظيم لا يعلن انفراده بتمثيل الشعب والنطق باسم الثورة، فيسود الانسجام والتكامل داخل الصف الوطني السوري ونخرج من أكذوبة التمثيل المضحكة. لو اقتدى المجلس بحركة فتح، التي كانت أقوى منه بما لا يقاس، وموجودة على الأرض أكثر من مجموع المنظمات الفلسطينية الأخرى مجتمعة، دون أن تتطلع إلى تهميش غيرها أو إخراجه من العمل العام، لكان تجاهل مسألة التمثيل وأبرز عوضا عنها مسألة قيادة الساحة ووحدتها باعتبارهما المسألتين اللتين تنبع منهما جدارته بالتمثيل، ولركز جهوده على قدرة خطه السياسي الجامع على قيادة الساحة، بدل إخفاء حقيقة سياساته الإسلامية وراء غلالات ليبرالية لا حول لها ولا طول، وشحن الساحة بخلافات مفتعلة نابعة من رهانات حزبوية إسلامية ضيقة تتدثر بقصة التمثيل الوحيد والشرعي المزعوم.

ثمة متسع من الوقت لإصلاح «النموذج السوري» في المعارضة، لأنه ليس أصليا ولا ينبع من المصلحة الوطنية، بل تمليه رغبة طرف محدد في استغفال بقية أطراف المعارضة والواقع، وجعل وصوله إلى الحكم حتميا ومسلما به بعد سقوط النظام، بحجة أن هناك عقدا لا سبيل إلى التنكر له أو التنصل منه أو نقضه بين الشعب وبينه، منحه حقا لا يجوز أن يشاركه فيه أحد يخوله الاستيلاء على السلطة مستقبلا بوصفه ممثل الثورة ومعادلها الموضوعي، وإلا فإنها لن تحقق أهدافها.

بسبب هذا النموذج الفاشل، تم كل تطور داخلي سوري خارجه أو ضده: من «الجيش الحر» إلى فصائل التنسيقيات والجمعات الحزبية والهيئات المعارضة المتنوعة. السؤال الآن: هل يتم إصلاح المجلس باتجاه النموذج الفلسطيني، فيتسع للجميع دون استثناء ويقوم على الندية والشراكة في النضال والوطن، أم يكون هدف الإصلاح احتواء الآخرين داخله، أي إخضاعهم للإسلاميين المسيطرين عليه، فلا يحقق الإصلاح غير إضعاف المجلس وتهميشه ووقوعه في يد جهة واحدة تمسك به من داخله وتفتقر إلى ثقة أحد خارجه؟ للمجلس أن يختار: التمثيل أم الريادة، الاحتواء أم الإقرار بالتنوع والندية؟ ولنا أن نأمل أن يكون خياره صحيحا هذه الأيام، حيث يتجدد الحديث للمرة الرابعة عن إعادة هيكلته وإصلاحه، وأن يتسم بواقعية تلزمه بالتواضع، ويتفق مع حجمه المحدود داخل الحراك والمجتمع والمعارضة في سوريا!