«يوم المرحمة»: خطابات الظل للإسلام السياسي!

TT

يوم المرحمة هو شعار مظاهرة للإسلاميين «الإخوان» بالأساس وبعض التيارات السلفية المسيسة بالتحالف والتبعية، وهي مظاهرة لدعم مسودة الدستور التي تم طبخها على عجل في مكتب الإرشاد وبطريقة لا تليق أبدا بدستور دولة على الهامش، فضلا عن أن تصلح لطرحها كدستور لدولة بحجم وتأثير مصر.

اللافت في يوم المرحمة أنه إحالة ذهنية إلى «فتح مكة» الذي كان فرقانا بين أهل الحق والباطل، لكن الأمر لا يقف عند هذه التشبيهات التي هي أقرب إلى مفرقعات خطابية عادة ما تحشدها الأحزاب الدينية لاستغلال بساطة وسذاجة الجماهير، بل يتعدى ذلك إلى أن ثمة وعيا مغلوطا بالذات من قبل «الإخوان» وأنصارهم.

لو تتبع المراقب السياسي الخطاب الإخواني من الداخل وأضاف إليه خطابات الظل المتحالفة معه وهي تشمل المجموعات السلفية المسيسة لهاله حجم «اليقينية» والثقة التي يتحدث بها القوم عن أنفسهم وعن وعد الخلافة والمرحلة القادمة.

هناك اقتباس هائل لمواقف وتعبيرات ومصطلحات من قلب التاريخ المبكر، وتحديدا الفترة الراشدية، يتم منحه بسخاء على وصول «الإخوان» للحكم، والخطير أن هذه الخطابات التي عادة ما يتنصل «الإخوان» منها باعتبارها تذاع في قنوات دينية بحتة مثل قناة «الحافظ» الشهيرة التي باتت مرتعا لخطاب الظل الموجه للعامة والبسطاء، وهم الوقود الحقيقي لأي حراك على الشارع، فعلى الرغم من دعاوى «الإخوان» العددية فإنهم ككوادر وقيادات منظمة تظل أقلية صلبة يمكنها حشد دوائر معقدة ومتداخلة من الانتماءات والولاءات وحتى الحشود الضخمة التي تريد الدخول في دولة «الإخوان» أفواجا.

في خطاب آخر على ذات القناة يصف أحد المتصلين أمام صف من الشيوخ المستمعين بخشوع لصراخ الواعظ الذي كان يبكي ويقسم بالله أن مرسي مختطف من عهد الصحابة وأنه حفيد عمر بن الخطاب وأن المصريين لا يستحقون رجلا مثله وأن العالم كله سيندم على التفريط في رجل صالح مثله.

بالطبع خطابات «الظل» هذه، أو «النص الغائب» كما يسميه أهل النقد الحديث، تدلنا عبر التقنيات المستخدمة فيها بشكل غير واع على عمق الأزمة، واحدة من التكنيكات الخطرة هي «التناص» أو «التعالق» وهما مصطلحان نقديان لقراءة الاقتباس أو الإحالة الرمزية إلى موقف سابق أو مرحلة زمنية «مقدسة»، هذا التناص عادة ما يستخدم بسخاء شديد لوصف المرحلة على أنها خلاف بين أهل الحق والباطل، بين جنود الخلافة وبين أهل الضلال والفساد الذين يوصفون في الخطابات الرسمية بـ«الفلول».

وإذا كانت السلفية في مصر وربما في مواقع أخرى تعيش حالة من التوهان في وعيها السياسي تمثل في الانفجار العظيم الذي حولها من مبدأ «ولي الأمر» إلى تيارات داخلة اللعبة كشريك سياسي، إلا أنها في حالة التحالف الجديدة مع «الإخوان» عادوا لمربع «ولي الأمر» المنتخب أو الديمقراطي الذي لا يجوز الخروج عليه أو النزول للشارع لمعارضته.

بالأمس هرعت الصحف المصرية والمواقع إلى الاهتمام بتعليقات دعاة ومشايخ سعوديين عن الأحداث في مصر، وبالطبع كان منبر «الظل» الأساسي هو «تويتر»، حيث أحد دعاة السوبر ستار يشبه حال مرسي بما حصل للخليفة الراشد عثمان بن عفان وحصاره بحصار قصر الاتحادية، وبعيدا عن «الشقلبات الهوائية» للدعاة السياسيين الطارئين على المشهد الديني في الأساس، فإن المثير هو ذلك التشابه في استخدام تكنيك «التناص» عبر إحالة ما نعيشه الآن إلى أحداث في العصر الإسلامي الأول، مع الفارق الهائل في كل شيء في الشكل السياسي وطبيعة مكونات المجتمع.. إلخ.

الأكثرية التي يتحدث عنها «الإخوان» في خطابهم الرئيسي هم أهل الحق والجماعة المؤمنة في خطابات الظل، والرئيس المنتخب بفارق ضئيل سياسيا هو الخليفة الذي هرب من زمن الصحابة في خطاب الظل وهكذا الدستور الهش الذي كتب بضغط الأقلية السياسية ومعارضة الجميع، تحول بقدرة قادر في خطاب الظل الذي يؤسسه «الإخوان» شعبيا ببراعة إلى «الشريعة» التي لا يجب لأي مسلم أن يقول «لا» لها.

وإذا كان يقال إن من يسيطر على «الإعلام» يسيطر على الجماهير، أو كما قال أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة» الحالي ذات مرة: «إن نصف معارك أهل الحق في ساحة الإعلام»، فإن هذا صحيح جدا، لكن الأصح منه والأكثر تأثيرا هو السيطرة على «إعلام الظل» منابر المساجد، منصات الساحات العامة، القنوات الدينية الموجهة، وإذا كان في السابق تعمل هذه القنوات دون أي رقيب أو حسيب على طريقة «B2B» التسويقية من المنتج للمشاهد مباشرة؛ فإنها الآن باتت مرصودة أكثر ومؤرشفة في الإنترنت على «يوتيوب» وغيره مما يجعل خطاب الظل مكشوفا، وهو الأمر الذي يتطلب من الباحثين أن يلتفتوا إليه أكثر من الإعلام التقليدي الذي بات يعيد إنتاج نفسه عبر نفس الوجوه والخطابات.

وإذا كان المثل المصري يؤكد أن «الكتاب بيبان من عنوانه» فإن الخلاف على الدستور الإخواني يمكن التنبؤ به إذا ما تأملنا حفلة «الشواء» التي تقام الآن بسبب قسر الناس على قول «نعم» وإعادة غزوة الصناديق عبر المساجد والمنابر، فالخلاف هو على «هوية» مصر، والتمسك بدستور الأقلية هو جزء من رفض المجتمع المصري تقنين «هويته» المتنوعة والثرية لتكون كما تنص المادة 212 على استمداد القواعد الكلية من مذهب أهل السنة والجماعة!! حتى الدستور يريد أن يأخذ حقه من «التناص» الروحي فيما يشبه العصاب الجمعي الذي يعيشه «الإخوان» والإسلام السياسي حول شعاراته السياسية ذات الصبغة الآيديولوجية والدينية، والغريب هنا أن كل هذا الحشد للتعالق مع «التاريخ» لا يتصل إلا بالجانب الهوياتي منه، فلا تكاد ترى أي تضمين لشعارات تتعلق بالعدالة الاجتماعية أو المحاسبة، حتى الذين يشبهون «مرسي» بالخلفاء الراشدين في الخطب الرنانة لا يأتون على ذكر «بغلة» العراق الذي تعثرت، لأنهم يعلمون أن البلد كله يتعثر وبشكل يشبه كرة اللهب التي تكاد تحرق ما تبقى من موارد اقتصادية، لا سيما إذا قرر الغربيون تقليم الأظافر الإخوانية ما بعد الربيع العربي عبر ربط أي معونات اقتصادية أو برامج تنموية بالإصلاح الديمقراطي.

خطاب الظل المصري الذي أتابعه منذ بدايات الثورة يقول بوضوح إن جناح الصقور في «الإخوان» وهو ما يرمز إليه بالجناح القطبي، يسيطر على الجماعة وربما سيسهم في تدميرها وإفشال كل صبرها وانتظارها الطويل، كما أن الجناح الإصلاحي المعتدل داخل الجماعة محدود التأثير ويعاني من ارتباك شديد بين مبدأ «النصرة» ومبدأ الحق لا يعرف بالرجال، ويبدو أن هذا التردد المحدود لا يلغي أن السواد الأعم يرى فجر الخلافة أقرب من أي لحظة مضت.

[email protected]