«الإخوان» والدستور.. معركة خاسرة

TT

معركة مشروع الدستور المصري الجديد خاسرة بكل المعايير والمقاييس، وبغض النظر عن نتائج الاستفتاء، فالدستور دفع مصر نحو انقسام حاد، وغذى أجواء الاحتقان والاستقطاب بما يجعل الأيام المقبلة عرضة لمواجهات ومصادمات قد تكون أشد من تلك التي شهدناها في الأيام والأسابيع الماضية. وفي مثل هذه الأجواء يصعب فهم إصرار الرئيس، ومن خلفه جماعة الإخوان وحلفاؤهم من الحركات والجماعات الإسلامية الأخرى، على المضي في مشروع الدستور والاستفتاء عليه. وقد كان لافتا أنه في هذه الفترة ظهر متحدثو «الإخوان» وقادتهم أكثر مما ظهر الرئيس مرسي الذي توارى عن الأنظار حتى انطلقت شائعات في الإنترنت عن «اختطافه»، وهي شائعات شارك فيها حتى بعض عناصر «الإخوان»، مثل قول أحدهم إن البرادعي وعمرو موسى وضاحي خلفان (قائد شرطة دبي) خططوا لاختطاف مرسي وتهريبه إلى خارج مصر! كلام لا يعقل ولا يصدق، لكنه يتردد في مثل هذه الأجواء التي يختلط فيها المضحك بالمبكي.

غياب مرسي والظهور الكثيف لقادة «الإخوان» كان مدعاة لتساؤلات كثيرة، لا سيما أن متحدثي الجماعة بمن فيهم المرشد محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر كانوا يتكلمون وكأنهم الجهة صاحبة القرار، فيعلنون الإصرار على المضي قدما في الاستفتاء، ويتهمون الأطراف الأخرى بالضلوع في مؤامرة ضد الشرعية، ويقولون إنهم لن يسمحوا بالانقضاض مرة أخرى على الثورة. بل إن الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة والقيادي في حركة الإخوان قال إنه حتى لو سقط مشروع الدستور في الاستفتاء فإن ذلك لن يغير شيئا؛ لأن الجمعية التأسيسية المقبلة التي ستتولى إعداده ستكون نفس الجمعية الحالية، وهو كلام يؤكد إصرار «الإخوان» على فرض رأيهم في موضوع الدستور وعدم رغبتهم في الاستماع لصوت الشارع المعارض، أو في حوار جدي مع الأطراف الأخرى؛ من أجل أن يكون الدستور تعبيرا عن التوافق بين مختلف مكونات المجتمع حتى يحقق للبلد الاستقرار ويضع أسسا للحكم تكون هي الضامن للحقوق والحريات والمنظم لعمل دولة المؤسسات بغض النظر عن تغير الحكومات والأشخاص.

لقد أسقط «الإخوان» الأقنعة والحجج التي كانوا يتسترون خلفها بالقول إنهم لا يتدخلون في عمل الرئيس ولا في قراراته؛ ففي كل مرة أصدر فيها مرسي إعلانا دستوريا أو اتخذ قرارا كبيرا مثيرا للجدل، كان «الإخوان» يتصرفون وكأنهم على علم مسبق بالأمر، فيدلون بالتصريحات ويحشدون أنصارهم للتظاهر حتى قبل أن يعلن الرئيس خطواته. وفي موضوع الدستور تولى «الإخوان» دفة الأمور بالكامل متجاوزين الرئيس وحزب الحرية والعدالة، فكان قادة الجماعة يصرحون ويتحدثون وكأن الدستور وثيقتهم ومعركتهم الخاصة، وينظمون المظاهرات محددين شعاراتها وأماكن تجمعاتها، ويعقدون المؤتمرات الصحافية للدفاع عن مشروع الدستور ومهاجمة معارضيه والترويج لأحاديث المؤامرة ومحاولات الانقلاب على الشرعية التي استخدموها كمبرر لإرسال أنصارهم لمواجهة المعتصمين والمحتجين ضد الدستور وقرارات مرسي الأخيرة، مما أدى لوقوع عدد من القتلى وكثير من الجرحى.

في ظل هذا الظهور المكثف لقادة «الإخوان» وغياب مرسي عن المشهد تقريبا، ظهر أيضا الشيخ يوسف القرضاوي ليدعو المصريين للتصويت بـ«نعم» على مشروع الدستور حتى لا تضيع عليهم 20 مليار دولار وعدت قطر باستثمارها في مصر، وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يتساءلون في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت عن العلاقة بين الأموال القطرية والاستفتاء على الدستور المصري وحكم «الإخوان»، وينتقدون الشيخ القرضاوي الذي أطلقوا عليه اسم «الشيخ القطراوي» لاستخدامه الأموال القطرية في محاولة التأثير على استفتاء الدستور. من بين المنتقدين كان هناك من تساءل: ماذا لو أن هناك دولة أخرى وعدت باستثمار 30 مليار دولار مثلا وهي معارضة لمشروع الدستور، فهل كان الشيخ القرضاوي سيدعو المصريين للتصويت بـ«لا» في الاستفتاء حتى لا يخسروا هذا المبلغ؟

لقد خسر «الإخوان» الكثير من طريقة تصرفهم في مشروع الدستور، مثلما أن الرئيس مرسي أجج المشاعر في الشارع بإعلانه الدستوري الذي تجاوز به صلاحياته المحددة في إعلان مارس 2011 الذي أجازه الشعب في استفتاء فاقت نسبة المشاركة فيه الاستفتاء الحالي؛ ففي ذلك الاستفتاء بلغت نسبة المشاركة 77 في المائة من الناخبين المسجلين، في حين أن نسبة المشاركة في المرحلة الأولى من الاستفتاء الحالي على مشروع الدستور لم تتعد 31 في المائة وفقا لما نشرته وسائل إعلام مصرية وأيدته جمعيات حقوقية. وحتى ضمن هذه النسبة المتدنية من المشاركين فإن نحو 56 في المائة أيدوا الدستور، بينما عارضه نحو 43 في المائة، وفقا لما أعلنه حزب الحرية والعدالة. وإذا أخذنا بهذه الأرقام فإن ذلك يعني أن مشروع الدستور لم يصوت لصالحه إلا ربع المجمع الانتخابي في مصر، بينما قاطعته أو عارضته النسبة الباقية، فأي شرعية هذه لدستور يفترض أن يمثل توافق أهل البلد ويحصل على تأييد الغالبية الساحقة إن لم يحظ بالإجماع؟

لقد وثقت المنظمات الحقوقية وقوى المعارضة والكثير من الناشطين لخروقات كثيرة خلال المرحلة الأولى من عملية الاستفتاء، ونشرت الكثير من الصور وأشرطة الفيديو على الإنترنت لتوثيق هذه الخروقات مثل وجود عدد من المشرفين على اللجان تبين أنهم ليسوا قضاة وأن بعضهم انتحل هذه الصفة وهرب عندما واجهه الناس، أو المحاولات التي حدثت لعرقلة التصويت، خصوصا في المراكز التي تزداد فيها نسبة المعارضين والأقباط، وتوزيع أموال على ناخبين لكي يقولوا «نعم»، ومنع آخرين من التصويت. كما أظهرت بعض الأشرطة بطاقات معدة وجاهزة بتوقيعاتها وأختامها للتصويت بـ«موافق». هذه التجاوزات وغيرها أغضبت القضاة الذين شاركوا في المرحلة الأولى وجعلتهم يقررون الانسحاب من الإشراف على المرحلة الثانية، مما سيرفع من حجم الشكوك إزاء الاستفتاء.

في مثل هذه الأجواء لا يمكن الاحتفاء بنتائج الاستفتاء أو القول إنه سينقل البلد نحو الاستقرار المنشود وحكم دولة المؤسسات. فالواقع أن مشروع الدستور دفع البلد نحو المزيد من الاحتقان، وهيأ المشهد لمواجهات جديدة، ربما تنتهي إلى نتائج لم يحسبها حتى «الإخوان» الذين رفعوا السقف في المعركة بتوجيههم السهام نحو القضاء والإعلام، وهما ساحة المواجهة المقبلة كما يبدو.

[email protected]