تحولات جيوستراتيجية في سياق الثورات العربية

TT

الدوحة كانت على مدى 3 أيام شاهدا مهما لنقاشات في العمق حول التحولات الجيوستراتيجية في سياق الثورات العربية. الإنتلجنسيا العربية في جلسات نقاش مطولة ومتعددة الجوانب وضعت اليد على الجرح «كثر هم الفاعلون لكن المفعول بهم في أغلب الأحيان هم شعوب وأنظمة عربية» تكتفي بالتراقص على أنغام ومعزوفات غربية خارجة عن المنطقة تحاول فرض الرؤية والتصور والقرار.

الإنتلجنسيا العربية تحاورت على مرأى ومسمع السياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين العرب وغير العرب في مسائل طرح استراتيجيات البحث والتدقيق العلمي والمنهجي وضرورات التماسك والانفتاح والتعاون في ما بينهم أولا ثم إطلاق لغة حوار جديدة مع دول الجوار الإقليمي والعالم الخارجي.

المثقفون العرب تجاوزوا نظرية المؤامرة والمتآمرين رافعين شعار أن الإصلاح الحقيقي داخل بلدانهم هو الخطوة الأولى الصحيحة على طريق التعامل مع المخططات والتصدي لها.

لكن المثقفين العرب ما زالوا يبحثون عن سبل مواجهة المطامع الإسرائيلية في النظام العربي، وكان هناك نظام عربي موحد متكامل يتعامل مع السياسات والأهداف الإسرائيلية. حتى بلدان الربيع العربي لم تقدم لنا حتى الآن تصورا لمسار ومستقبل علاقاتها بتل أبيب، هل سيتزايد التشدد أم ستكون هناك ليونة ومرونة حول سياساتها حيال إسرائيل وموضوع الصراع العربي - الإسرائيلي.

المثقفون العرب طرحوا مسألة التمييز بين قيادات وأنظمة سياسية تحاول أن تحمي مصالحها ومطامعها في البلدان العربية وبين سياسات ثابتة لهذه الدول. النخب العربية تتغير وتريد من قياداتها وأنظمتها السياسية أن تتغير أيضا، هم يطالبون بمقاربات وطروحات جديدة، فالعالم العربي كما قال المفكر سيار الجميل تعرض في مطلع كل قرن لتحديات تستهدف بنيته وثروته.. تحديات استمرت 30 عاما في كل مرة، متسائلا عما إذا كان الوقت لم يحن بعد لإطلاق المشروع الموحد والرؤية المستقبلية العربية الشاملة التي تقطع الطريق على محاولات الكبار في تحديد معالم سياساتنا ومستقبلنا ومصيرنا.

المثقفون العرب ذكروا بالمرفوض مرة أخرى لكنهم ناقشوا مطولا المطلوب والمنتظر، هذه المرة طالبوا بدعم مراكز الدراسات والأبحاث في جميع الاختصاصات لتكون تحت تصرف القيادات السياسية عند رسم السياسات وصناعة القرار.

القضية الفلسطينية والتحولات الجيوستراتيجية في سياق الثورات العربية كانت الغائب الأكبر عن الجلسات، فلم نستمع إلى تحليلات حول نتائج وانعكاسات الانتصار الفلسطيني الأخير في الأمم المتحدة، وكل ما سمعناه كان انتقادات لتركيا وإيران واتهامات بعرقلتهما تقدم ملف القضية الفلسطينية ومحاولة الهيمنة عليه.

نجم المؤتمر كان في رأيي طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي الذي حضر معظم أعمال الجلسات يناقش ويعترض ويقترح غير عابئ بالقرار الجديد لإحدى المحاكم العراقية التي أصدرت حكما جديدا بالإعدام ضده وبمذكرة الإنتربول الدولي الداعية للتعاون في موضوع اعتقاله وتسليمه إلى بغداد.

نجم المؤتمر الآخر كان المعارضة السورية التي شاركت بأهم مفكريها ومثقفيها، طرحوا رؤى جديدة حول مستقبل بلدهم السياسي بأسلوب حوار حضاري رغم تنوع هوياتهم السياسية والآيديولوجية والدينية.

حالة غضب المثقفين العرب ما زالت تتفاعل بسبب ما وصفه البعض بغرور القوة الإيرانية والاستعلاء التركي اللذين يحاولان أن يفرضا أجندات على الدول العربية كما قيل لنا أيضا.

بينما كانت حلقات النقاش بين المثقفين العرب وضيوفهم وكانت الرموز الفكرية السورية في المعارضة تطرح الهموم والمشاكل وسبل الخروج من الأزمات والمشاكل، كانت طائرات النظام تقصف مخيم اليرموك، وكانت قيادات فلسطينية تنقسم على نفسها وتنشق على النظام السوري الذي كانت تدعمه حتى الأمس.

لقاء الدوحة كان البطاقة الصفراء للأنظمة التي لا تستمع إلى مثقفيها والتي كانت حتى الأمس القريب لا تحاربهم بحظر مؤلفاتهم ونتاجاتهم فقط، بل تقمعهم وترميهم في السجون أو تدفعهم للرحيل والمغادرة بسبب ما يقولون.

مؤتمرنا المقبل في الدوحة سيكون لمناقشة خطط وسياسات تقدمها الإنتلجنسيا العربية للقيادات والأنظمة الراغبة في التحرر من القيود.