التعامل مع مصر الآن!

TT

أصبحت مصر لغزا لأشقائها وخصومها في آن واحد، ولا أستمع لصديق شرقا أو غربا إلا وعبر عن حيرته بصدد المسار الذي سوف تأخذه مصر في سياستها الخارجية والداخلية. الحيرة مضاعفة لأن ما تبدو عليه مصر أنها تغيرت جوهريا، فهي لم تغير نظام الحكم فقط، بل إن البادي عليها أنها غيرت في طبيعة الدولة أيضا. فالذائع عن فلسفة، أو لنقل أيديولوجية، حركة الإخوان المسلمين معروفة سواء ما تعلق منها بالموقف من نظام الحكم، والدولة الوطنية. فما سعت إليه منذ ظهورها على الساحة، ليس كحركة معارضة، وإنما كحركة قائدة للسياسة المصرية سواء كانوا ممثلين للشعب المصري في مجلسي الشعب والشورى، أو كشاغلة لمقعد القيادة في رئاسة الجمهورية والحكومة؛ هو أن تبدو بديلا لكل ما عرفته مصر من نظم وقواعد في العصرين الملكي والجمهوري.

كانت هذه هي الصورة التي سعت الحركة لإظهارها للأعداء والأصدقاء معا؛ وكان في بنائها ما يجعلها صادقة مع هذه الأخيلة الذائعة. فهي تنظيم محكم له قواعد في كل قرية مصرية؛ كما أن له فروعا في ثمانين دولة من دول العالم، كلها نشطة في جمع المال والتأييد السياسي. وعلى الرغم من أن هناك مجلسا للإرشاد ومرشد يقود «الجماعة»، وهناك مجلس شورى للمناقشة والمداولة والتشاور، فإن هناك دائما ما هو غامض في الجماعة كلها. فلا يعرف أحد كيفية الانضمام للجماعة، أو الخروج منها، أو كيف تجمع أموالها؟ وما أرقام حساباتها في البنوك؟ ومن يحاسب على العمل أو على المال فيها؟ من داخلها أو من خارجها. هذه النوعية من الغموض جرى التغطية عليها بأن يكون هناك بناء تنظيمي آخر مسجل مثل غيره من الأحزاب هو حزب الحرية والعدالة الذي تدخل باسمه الجماعة إلى الانتخابات، ومنه يأتي رئيس الجمهورية، وربما يشارك مباشرة في تشكيل الحكومة. ولكن جزءا من الحيرة التي ألمت بالنظارة والمراقبين أن الحزب سرعان ما شحبت ألوانه، وغابت قياداته، وظهر في الأزمات المتعاقبة خلال عامين من الثورة المصرية تقريبا أن الكلمة هي للجماعة، ومجلس إرشادها، وشخصية مرشدها، وشخصيات بعينها ظهر لها حول وطول أبرزهم السيد خيرت الشاطر.

هذه الجماعة هي في كل الأحوال لها أدب سياسي، تشكل داخليا فيما عرف بمشروع النهضة الذي فيه قائمة طويلة من المشاريع التي تنقل مصر إلى مستويات من المعيشة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال بشر. أما خارجيا فقد جرى الوعد أن تخرج مصر من أسر التبعية التي سارت فيه على مدى العقود السابقة؛ ومن ثم تنشر أجنحتها لكي تستعيد مكانتها الإقليمية والدولية. كل ذلك كان نوعا من الأحلام المقبولة والتي ترددها أحزاب وحركات وجماعات شتى؛ ولكن الجديد في الأمر هو أن كل ذلك سوف يأتي في إطار «إسلامي» أي له نكهة ولون وطعم مختلف عما عرفته مصر في تاريخها الحديث.

المسيرة حتى الآن لا يبدو منها الكثير من كل ذلك، وكانت الذريعة هي أن حكم الجماعة لا يزال في أوله، وهي لا تزال وفق معاييرها الذاتية تعيش مرحلة «التعزيز» التي أتت بعد مراحل «المزاحمة» و«المشاركة»، وقبل أن تصل إلى مرحلة «التمكين». الاستفتاء على الدستور المصري، وفقا للصياغة التي أتى بها، أخذت الحركة في اتجاه المزيد من السيطرة على الدولة المصرية. لم تكن المسألة سهلة بل إنها عبرت طريقا طويلا من المعارضة الشعبية، والصدام مع السلطة القضائية، والحراك الجماهيري المتزايد. قطعت الحركة هذا الطريق كله بقدر غير قليل من الإصرار، والقدرة الكبيرة على المناورة باستخدام الإعلانات الدستورية، والحوار مع القوى المعارضة «الصديقة»، وأخيرا القدرة المعروفة على الحشد والتعبئة لكي تحصل على أصوات المؤيدين، والتغاضي عن عمليات ابتزاز واسعة النطاق قامت بها جماعة «حازمون» السلفية أمام مدينة الإنتاج الإعلامي، والمحكمة الدستورية العليا، وكأن الحركة والجماعة تطرح على الشعب المصري بديلا قاسيا آخر يجعلها هي البديل المفضل أيا كانت التحفظات.

ومع ذلك فإن جديدا لم يطرح حتى الآن على الأقل في آفاق السياسات الداخلية والخارجية. داخليا لا يوجد في وزارة الدكتور هشام قنديل ما يجعلها تختلف عن تصرف وزارة الدكتور أحمد نظيف لو أنها كانت قد وصلت إلى ظروف متدهورة مماثلة. فكما يحدث في مثل هذه الأحوال يجري اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، ومعه تجري حزمة من السياسات التقشفية التي تقلل النفقات، وتزيد الضرائب فتضيف للموارد، التي تعدل الميزان في الاقتصاد الكلي للدولة. في كل ذلك لا توجد اختراعات جديدة، وليس معروفا كيف يكون «الإسلام» معبرا عن هذا وذاك، ولا تستطيعه البوذية أو المسيحية. وبنفس الطريقة كان الحال في السياسة الخارجية، فمنذ اللحظة جرى الإعلان عن الحفاظ على معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، وسقطت كلمة «إلغاء» المعاهدة، أو «إعادة النظر» فيها، وهو تعبير جرى تداوله من آن لآخر. وبالتأكيد فإن الرئيس مرسي كون رصيدا خلال أزمة غزة على الساحة الدولية عندما بدا مانعا لحرب كان يمكن أن يتسع مداها، وزمنها، وكم التضحيات والتعقيدات التي تطرأ عليها. ما بعد ذلك فإن تداول العلاقة مع طهران لم يزد الود الإيراني تجاه مصر، ولم يقلل من التزام هذه الأخيرة في اعتبار الخليج العربي جزءا من الأمن المصري، ولم تتجاوز الحركة الفعلية للسياسة المصرية عن السعي باتجاه المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وكلها جهود كان يوجد ما يماثلها في العصر المباركي.

الوضع هكذا لا يوجد فيه الجديد الذي يشير إلى انقلاب جريء في السياسة المصرية. وربما يعزى ذلك لأسباب يتحمس أنصار الجماعة لواحد منها وهو قصر الفترة الزمنية وعدم استكمال الدولة لمؤسساتها، وتعويق «الفلول» والمعارضين وحزمة من الأعداء لحركة الإخوان. ولكن ذلك على ما فيه من جدارة لا يكفي لغياب فارق إخواني في السياسة، والمرجح أن هناك أسبابا أكثر موضوعية بعضها يعود إلى أن المجتمع المدني المصري على الرغم من أن الأغلبية ليست في صالحه فإن وجوده وحركته نجحت في تقييد حركة الإخوان. ولكن الأهم أتى من جانب البيروقراطية المصرية العريقة والعتيقة التي قد تبدو مستسلمة لمن يأخذ مقود القيادة إلا أنها الآن تقيده بسرعتها وبلوائحها وقدراتها المحدودة. وقبل ذلك وبعده هو وجود المؤسسات يقع في مقدمتها القضاء الذي صمد في المواجهة، ومعها القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية، والمالية من أول البنك المركزي وحتى باقي البنوك والمؤسسات الاقتصادية وضعت إطارا يصعب على الجماعة والحركة أن تجد لنفسها مسارا خاصا بها، خاصة أن «العولمة» جعلت المؤسسات الدولية ليست «دولية» وإنما داخلية بامتياز. هل يمكن بعد الموافقة على الدستور، وإجراء الانتخابات النيابية، أن تكون هناك مسارات أخرى جديدة؟ سوف ننتظر ونرى.