في انتظار المجهول في المشرق!

TT

قرأت مقالا صباح السبت التاسع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) في صحيفة «نيويورك تايمز» عن عزلة الرئيس بشار الأسد داخل قصره، وكيف أنه يتنقل بين غرف مختلفة للنوم، وأنه يجري اختبارات على الطعام الذي سيتناوله خوفا من مؤامرات دس السم، وربما يعيش في أكثر من مكان، وباختصار فإنه يعيش لحظات خوف نقية. القصة كلها صعبة على التصديق، ولكنها معتادة في الأنظمة الديكتاتورية التي يقرر فيها «الديكتاتور» أن يعيش اللحظة حتى آخرها فتنتهي الدراما إلى حالة تراجيدية كاملة. ما بقي فعليا للرجل لا يزيد على محافظتين، وكلتاهما مهدد بين لحظة وأخرى، وآخر المؤيدين له من الروس يسحبون تأييدهم تدريجيا، وهو لا يعلم متى قرر العلويون ترك السفينة التي أوشكت على الغرق.

معضلة مقالنا هذا أنه سوف ينشر يوم الأربعاء، ساعتها سوف يكون هناك عام جديد، والأرجح أن بشار سوف يبقى يتحرك بين حجراته القليلة، ويقوم بالتفكير في بعض من خانوه وتركوه بعد أن كانوا يعاملونه معاملة الآلهة، ويرتج عقله حول أسباب ما جرى. ولكن القصة ربما لم تعد قصة بشار بقدر ما هي قصة سوريا، والمشرق الذي أوشك على أكبر تغيير في الجغرافيا السياسية في المنطقة منذ اتفاقية سايكس بيكو التي طالما بكينا منها، ولكنها أعطتنا نظاما عاش تسعين عاما تقريبا. البادي من اللوحة القريبة أننا سنواجه بتغيير في سوريا لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي صار في دول «الربيع العربي»، حيث قامت الثورات وتم نسف النظم القائمة، وبعدها جاء الإخوان المسلمون، مع حلفاء من أهل السنة والجماعة، سلفيين أو جهاديين، ولكن الصبغة تدعى «الإسلامية» في كل الأحوال. ولكن تجربة «الربيع» رغم مقاربات ومتشابهات، فإنها اختلفت من بلد إلى آخر حتى ولو كان في إقليم واحد مثل شمال أفريقيا حيث كان الحال في مصر ليس كمثله في ليبيا أو حتى في تونس.

تجربة المشرق مختلفة كل الاختلاف، لم تكن صدفة أنه رغم كل الانتقادات التي وجهت إلى «سايكس بيكو»، فإنها طبقت واستمرت، وخلقت توازنات كانت هي التي أبقت عليها. وحينما حاول عبد الناصر وحزب البعث الخروج عليها بالوحدة المصرية - السورية لم يستمر الخروج طويلا، واستعصى الأمر على «بعث» العراق ومثيله في سوريا رغم حديث متكرر عن الوحدة التي كان يتخللها اعتقال أنصار الطرف الآخر. المشرق كان جاهزا دوما للتفتيت، ولم يحمه طوال ما يقرب من قرن إلا السلطة الحديدية التي لم تفعل الكثير لخلق «الدولة الوطنية» التي هي الضمان لحماية الدولة من التفتت. حالة المشرق بعد الحرب العالمية الأولى كانت مثل حال أوروبا في أعقاب انهيار الإمبراطورية الرومانية، ومن بعدها الإمبراطورية النمساوية المجرية، ومؤخرا الروسية واليوغوسلافية، حيث كان التفتيت يعقبه تفتيت آخر، فانفصلت سلوفاكيا عن التشيك، حتى ولو سعت كلتاهما للاتحاد الأوروبي لكي يكون جزءا من وحدة لا يغلبها غالب.

المصير لن يكون مروعا بالضرورة حتى ولو كان مرجحا بحكم الظروف التاريخية، أو التقاليد العربية التي لا تعرف انفصالا بإحسان.

ومنذ بداية الأزمة السورية تمنيت على القيادات العربية أن تدير الأزمة وعينها على ما بعدها، ولم يكن ذلك دعوة لبقاء بشار الأسد بقدر ما كان نداء تتعلم فيها المعارضة السورية من تجارب سبقتها في دول الربيع. ولكن قدر الله وما شاء فعل، ويبدو أننا نعيش حركة للتاريخ لها منطقها الهادر الذي يصعب وقفه أو تغيير مساره عند نقطة بعينها. والظاهر أننا سوف نشهد لعبة للكراسي لا نعرف فيها لا عدد الكراسي، ولا متى تتوقف الموسيقى، ولا ما هو مصير هؤلاء الذين لن يجدوا مقعدا يجلسون عليه.

ومع ذلك فإن مشهد بشار الأسد في حيرته وفي سقوطه سوف يظل جزءا من النهاية، فالمؤكد أنه لن يكون لديه مسار سوري، بل إن الحالة التي يعيش فيها أشبه بتلك الحالة التي عاشها هتلر في أيامه الأخيرة حينما انصب جام غضبه على الشعب الألماني نفسه، مصمما على ألا يترك شيئا ذا قيمة للفاتحين الجدد، أو حتى للشعب الألماني نفسه الذي لم يعد يستحق الحياة كما اعتقد النازي. المؤكد أنه سوف يفكر كثيرا في استخدام الأسلحة الكيماوية التي يمتلكها، وربما يفعل إذا كان قراره هو الموت، أما إذا كان القرار هو أن يكون ملكا على دويلة للعلويين تكون واحدة من الممالك الجديدة في المنطقة فربما يكون هذا آخر أوراقه التفاوضية.

حدثني مسؤول عربي مؤخرا عن بشار، وقال إن مشكلته معه كانت أن الرجل لم يكن لديه إدراك من أي نوع للحالة الحقيقية السائدة خارج قصره. وقبل أكثر قليلا من عامين شرح الدكتور حسام بدراوي – آخر أمناء الحزب الوطني الديمقراطي - الحالة خارج القصر الجمهوري للرئيس السابق مبارك، فكان تعليقه سؤالا: هل هي بهذا السوء؟ بشار لم يجد من لديه القدرة لكي يقول له الحقيقة، ولو جاءته لما صدقها. ونتيجة هذه الحالة، ربما يفقد آخر الفرص المتاحة له للنجاة والتي قدمها له الأخضر الإبراهيمي والقائمة على الخروج الآمن مع أنصاره من السلطة وتشكيل حكومة وطنية تضع دستورا وتجري انتخابات.. أو هكذا كان التصور حتى وقت كتابة المقال.

ولكن موضوع بشار لم يعد هو القضية بالضرورة، ولكن القضية هي المشرق الذي ذاع فيه لعقود فكرة تغيير الخرائط، والآن يبدو أن الفكرة سوف تتحقق، فالأكراد يستعدون لدولة ممتدة داخل العراق لا يمنعها من الميلاد إلا الحضور التركي الكثيف، وهناك شيعة سوريا ولبنان يتأهبون لحالة ارتباط جغرافي يتدخل فيه العراق ولبنان، أو جزء منهما، السنة أمامهم السعودية والعراق وبعض من لبنان. ولكن الوحدة على أسس عرقية أو مذهبية أو دينية ليست بالضرورة هي المسار، بل إن المرجح أن يكون لكل جماعة دولتها الخاصة كما جرى في أوروبا التي تولدت فيها ممالك في صغر هولندا وبلجيكا والدنمارك، وإمارات في ضآلة لوكسمبورغ ولخشنشتاين وموناكو.

مثل هذه الحالة من التفتيت أبشع من «سايكس بيكو» وما فعلته، ولكن بشاعتها سوف تتضخم لو أنها ترجمت في النهاية إلى صراع بارد أو ساخن بين السنة والشيعة. وربما لا يعيد التاريخ نفسه دائما، ولكن الحالة لدينا تشبه ذلك الانقسام بين البروتستانت والكاثوليك، وهو الذي وضع خطوطا على الخرائط الأوروبية. إنها الجغرافيا تتغير، وكذلك التاريخ أيضا!