السوريون والغارة الإسرائيلية!

TT

غموض الهدف الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية، إن كان مبنى للبحوث العسكرية أم شحنة أسلحة متطورة مرسلة إلى حزب الله، لم يحجب وضوح مشهد جديد من ردود فعل السوريين، هو ليس مشهد الغضب الذي يميزهم عادة تجاه العنجهية الإسرائيلية، بل مشاعر ومواقف مختلفة ترتبط أشد الارتباط بتفاقم معاناتهم وما يتعرضون له من فتك وتنكيل خلال عامين تقريبا.

بديهي أن يسعى النظام ومن يلتفون حوله لتوظيف الغارة الإسرائيلية في سياق دعاية لم تنقطع عن مؤامرة تحاك ضد البلاد، وقد سارع على غير الدارج للاعتراف بحصول هجوم لطائرات إسرائيلية على موقع عسكري قرب دمشق، وتسخير الآلة الإعلامية الرسمية للحديث عن مخطط متكامل لقوى داخلية وخارجية للنيل من سوريا وموقفها المقاوم والممانع، والهدف مغازلة أحاسيس الناس الوطنية ولملمة بقايا من «شرعية سياسية مفقودة» والطعن بالثورة وصدقيتها وتشويه سمعة المعارضة، وتاليا لتمكين بعض حلفائه من تبرير دعمهم غير المحدود له وقد اعتراهم بعض الحرج الأخلاقي جراء الإسراف في العنف وما يخلفه من مشاهد لا يحتملها عقل أو ضمير.

وفي المقابل تسمع أحاديث تعتبر ما جرى مطلبا للسلطة وحلفائها لتحويل الأنظار عما يجري في البلاد والاستفراد بقمع ثورتها والنيل منها، بل ثمة من يعتقد أن الغارة أشبه بمؤامرة مع حكومة نتنياهو لتمكين استمرار الحكم السوري، كما هناك من يتبنى رواية بعض أطراف المعارضة بأن لا ناقة لإسرائيل فيما حصل ولا جمل، وأن القصف قامت به طائرات السلطة نفسها لتدمير موقع عسكري استراتيجي سبق أن استولت عليه مجموعة من الجيش الحر، بل إن إقحام إسرائيل وصمتها على ذلك هو شكل من أشكال التواطؤ للتخفيف عن السلطة السورية ومساعدتها على تجاوز أزمتها.

وهنا لا يخلو المشهد السوري من عبارات الشماتة مقرونة بالتهكم من ترداد الكلام المعروف بشأن احتفاظ النظام بحق الرد في المكان والزمان المناسبين، أو السخرية من المفارقة المؤلمة حين يوجه السلاح الحربي وهو بأعلى درجات الاستنفار، ضد الشعب وليس ضد العدو الغادر، أو حين يقف ساكنا أمام طائرات إسرائيلية قامت بتدمير موقع عسكري حيوي، وعلى ثلاث طلعات إن صحت الرواية المتداولة، بينما يسارع لإسقاط طائرتين حربيتين لحليف الأمس التركي بمجرد اختراقهما المجال الجوي السوري بحجة الدفاع عن السيادة الوطنية!

يدرك السوريون أنهم يقارعون نظاما يدعي المقاومة، وأن الغارة الإسرائيلية لا بد أن تفتح الباب على بعض المتغيرات التي لا بد أن توظفها أطراف محور الممانعة للحفاظ على موقعها السوري واستعادة دور إقليمي ينحسر، ولعلها تساعدهم على خلط الأوراق وخلق تحول في التفاعلات السياسية الجارية في الدوائر الغربية والعربية حول استقرار المنطقة والموقف من النظام السوري تزيد قلق المتشددين والمتخوفين من احتمال اندلاع حرب إقليمية في حال إسقاطه وتشجع دعاة التريث والتعاطي الاحتوائي.

ربما لا تفضي الغارة الإسرائيلية إلى إعادة شعبية قوى الممانعة والمقاومة، فالناس كشفت حقيقتهم وملت شعاراتهم، وهي أكثر من خبر كيف وظفت هذه الشعارات لتعزيز أسباب الاستئثار والقمع والفساد، وربما لن تكسب الفئات المترددة أو السلبية في المجتمع وإن كانت تمنحها حجة طازجة كي تبرر استمرار سلبيتها وترددها، لكن علينا توقع نتائج غير مرضية في حال سنحت الفرصة لأطراف محور الممانعة للاستثمار في هذه الغارة وتنشيط بعض المناوشات المحدودة

مع الدولة الصهيونية على أمل إعادة الاعتبار لأولوية مواجهة المخططات المعادية والرهان على الشعارات الوطنية في تمييع شعارات الثورة المتعلقة بالحرية والكرامة والعدالة. حزن السوريين عميق على تدمير أي ركيزة من الركائز العسكرية التي تم بناؤها لتمكين البلاد من مواجهة أعدائها، وقلقهم عميق أيضا من احتمال توظيف الغارة لتسويغ العنف المفرط ولبعث ردود فعل ضد الثورة بذريعة أولوية الصراع مع إسرائيل، ليس فقط لأن ما تم بناؤه تم من عرقهم ودمهم وعلى حساب تنمية مجتمعهم وتطويره، بل لأنهم أصبحوا جازمين بأن طريق مواجهة الصهيونية وتحرير الأرض المحتلة لا يصنعها الاستبداد بل إرادة الشعب الحر المنضوي في إطار دولة ديمقراطية. والحال، إن الاستمرار في هضم الحقوق العربية وانحياز المجتمع الدولي بصورة سافرة لصالح العنجهية الإسرائيلية، وصمته تجاه ما يجري في سوريا، عوامل تلعب دورا مهما في منح المشروعية لمن يسمون أنفسهم قوى المقاومة والممانعة وتشجع المروجين لمنطق القوة وأولوية العنف والصراع المسلح، ما يعني الطعن بالحقيقة الأهم التي كرستها الثورات عن دور الشعوب في تقرير مصيرها ورسم مستقبلها، وتاليا بالدروس التي تعلمتها مجتمعاتنا من تجاربها المريرة عن أولوية تحرير الإنسان كمقدمة لا غنى عنها لإعطاء المسألة الوطنية معناها الحقيقي.

منذ عقود وبعد هزيمة عام 1967 أجمع المثقفون العرب على أن السبب الرئيسي لانتصار من كنا نريد رميهم في البحر هو هشاشة البيت الداخلي الذي نخره الفساد والاستبداد، وخلصوا إلى أن بناء الدولة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هما الأساس الحيوي لمواجهة آثار الهزيمة والتصدي للتحديات والأخطار المحدقة وانتزاع حقوقنا، وجاءت الحروب على لبنان والانكسارات المتواترة للحالة الفلسطينية لتعزز هذه الحقيقة.

واليوم إذ يظهر السوريون، أنهم خير من تعلم هذا الدرس وأنهم أصحاب ثورة حقيقية لنيل حريتهم وكرامتهم قبل أي شيء، وأن ليس من حدث يمكنه أن يشوش على مطالبهم وحقوقهم أو يفل من عزيمتهم لإكمال المشوار، فهم على يقين بأن النظام سوف يخسر رهانه على توظيف الغارة الإسرائيلية كغطاء لإطلاق يده في الفتك والتنكيل ولحرف الأنظار عن أوضاعهم وما يكابدونه، وسيفشل هذه المرة في شحذ شعاراته عن المقاومة والممانعة التي سقطت إلى غير رجعة منذ استخدم الرصاصات الأولى ضد متظاهرين عزل يطالبون بحقوقهم المشروعة!