أمن الدولة وأمن النظام

TT

ما الفرق بين الدولة والنظام؟ الدولة هي القانون. النظام هو السياسة. عندما تسطو الدولة على النظام تلغي السياسة. هذه هي الدولة الفاشية.

عندما يلتهم النظام السياسي الدولة، يفقد القانون قدرته على تأمين المساواة والعدل في المجتمع. يغدو النظام هو الدولة. وتصبح الدولة هي النظام. هنا يستعيد النظام من الدولة مؤسساتها الأمنية، ليفرض بالقوة سلطته. أمنه. هيمنته على المجتمع.

على مفرق السبعينات مع الستينات، حدثت مأساة في العالم العربي. استولت خمسة أنظمة جمهورية على الدولة بالانقلاب العسكري، في العراق. سوريا. مصر. ليبيا. السودان. أصيب النظام الجمهوري بالتخمة عندما ابتلع الدولة. فقد القانون براءته. كان أول ما فعله النظام في تلك الجمهوريات البائسة تأميمه قوى الأمن. لم يعد القانون ملجأ المواطن العادي. إنما رجالات النظام/ الدولة.

هؤلاء دشنوا عصر الاستبداد. الظلم. فالقهر. تضخمت أجهزة الأمن. فمارست الرقابة الصارمة على المؤسسات العسكرية. المدنية. الحربية. لم يعد النظام يخشى الانقلاب. البرلمان. القضاء. النقابات. الصحافة. فأجهزة الأمن (المخابرات) هي التي ترشح. تنتخب. تعين. تقيل. تصدر الصحف.

روى الزميل ميشال أبو جودة رئيس تحرير «النهار» الراحل أنه في آخر زيارة له إلى دمشق، اعتقل عدة أيام. وقبل الإفراج عنه أتي به إلى العماد حكمة الشهابي رئيس الأركان السوري (ظل في منصبه 24 سنة).

في اللقاء الغاضب، رفع رئيس الأركان يده فوق رأسه. ثم هوى براحة كفه على مكتبه صائحا: «نحن نريد (النهار) كصحيفة (تشرين)»، الحكومية السورية. قبل وفاة العماد الشهابي في الخامس من مارس (آذار) الحالي، متقاعدا، شبه منفي، في الولايات المتحدة الأميركية، قال لصديقه وليد جنبلاط متحسرا على ما يجري في سوريا: «لم تعد سوريا تلك التي تعرفها من قبل».

هل غيرت الانتفاضات والثورات وضع المؤسسة الأمنية/ المخابراتية، عما كانت عليه طيلة السنوات الأربعين الأخيرة؟

أبدا. كان الهدف «الثوري» الأول، لأنظمة الإسلام السياسي (بما فيها الإسلام الإيراني) تطبيق ازدواجية النظام/ الدولة التي أدت إلى انهيار النظام الجمهوري. وبدأت بمحاولة تأميم أجهزة أمن الدولة والشرطة، وتشكيل ميليشياتها الحزبية. في تونس، اعترفت حكومة «النهضة» السابقة، بأن بعض أعضاء الخلية «الجهادية» التي اغتالت السياسي اليساري شكري بلعيد، هم أعضاء في الميليشيا الحزبية الرديفة لقوى الأمن!

في مصر، الوضع أسوأ. عندما انهارت قوى الأمن، انهار النظام الجمهوري السابق. لم تنفع ازدواجية النظام/ الدولة في إنقاذه. ولا الرأسمالية الضخمة التي تشكلت في عصره. بسقوط هيبة أجهزة الشرطة والأمن، وعودة نظام «الإخوان» إلى تمثيلية «النظام/ الدولة»، انهارت أيضا هيبة الدستور والقانون.

عند ذلك، سحبت الميليشيا «الإخوانية» من الشارع. وعاد النظام إلى استرضاء أجهزة الأمن وقوات مكافحة الشغب (الأمن المركزي). ودفعها إلى الصدام الدموي، مع طوفان الشارع الشعبي الفالت الذي فقد كل الثقة بالدولة. بالنظام. بالديمقراطية. بالحرية. بالإسلام السياسي. بإنقاذ الاقتصاد. وتحسين مستوى المعيشة.

صورة الشارع المصري مأساوية. رجل الأمن يرد بالحجارة على قذفه بالحجارة. يتمرد على أوامر ضباطه. يطالب بالبندقية لمواجهة الشارع الثائر! الوضع خطير. اعتصامات وفلتان أمني في مدن قناة السويس. ليس غريبا إذا سمع الرئيس ومكتب إرشاده غدا، بهيئة دولية «للمنتفعين» بالقناة تطالب بالإشراف الأمني، على سلامة الملاحة في القناة التي هي أهم معبر بحري للتجارة الدولية.

بقي الجيش المؤسسة المصرية الوحيدة المتماسكة. قيادته محرجة. مكتب الإرشاد الإخواني يسمح للجيش بتدخله لحفظ الأمن. ولا يسمح بتدخله سياسيا، للمصالحة بين «الإخوان» والمعارضة والشعب. إن تدخل الجيش فهو يخشى سقوط مزيد من الضحايا، من قوى الأمن وقوى الشعب. إن قام بانقلاب، فهو مقبول شعبيا، نكاية بنظام «الإخوان». لكنه قد يجد نفسه في تناقض كبير مع أميركا التي تساند نظام الإسلام السياسي.

في سوريا، بعد مرور 43 سنة على نظام عائلة الأسد، ما زال مقتل العقيد عبد الكريم الجندي لغزا. اغتيل أم انتحر؟! المرجح أنه نحر في مكتبه «1970» كان الجندي أرفع. وأقوى. وأشرس ضابط أمن، في نظام صلاح جديد (1966 - 1970). فقد كان مدير مكتب الأمن القومي في الحزب، وتعقد اللغز بوفاة زوجته بعد أسابيع من مقتله. فقد حملت سرها معها إلى قبرها.

كان الجندي المشرف والمسؤول على كل أجهزة الأمن في النظام/ الدولة التي تراقب الشعب لا الجواسيس. فسجلت إسرائيل نصرا كبيرا على مخابراته بزرع الجاسوس كوهين (كامل. أمين. ثابت) في صميم النظام البعثي. ولم يكن الجندي اللغز الوحيد في أجهزة الأمن السورية. ففي عهد الابن، قتل أو انتحر وزير الداخلية غازي كنعان الذي حكم لبنان أكثر من 25 سنة.

القائمة الأمنية السورية طويلة. فقد اغتيل العميد محمد سليمان (2008) برصاص قناص بحري، قيل إنه إسرائيلي. وكان سليمان مستشار الرئيس بشار المسؤول عن العلاقة مع إيران. بعد نشوب الثورة، قتل في انفجار غامض اللواء آصف شوكت مدير المخابرات العسكرية سابقا. واللواء هشام بختيار مدير مكتب الأمن القومي.

واتهم لبنان المخابرات السورية بتحميل الوزير اللبناني الأسبق ميشال سماحة متفجرات في سيارته، بهدف القيام بتفجيرات سياسية في بلده. لكن اللواء اللبناني وسام الحسن الذي ضبط الوزير سماحة، ما لبث أن اغتيل، بعد اعتقال سماحة بشهرين.

التركيب الأمني/ الميليشيوي بدأ باكرا في عهد الرئيس حافظ الأسد. وكان البادئ شقيقه الأصغر رفعت الذي أنشأ ميليشيا عسكرية (سرايا الدفاع). ثم أصبح نائبا للرئيس. لكنه استقال. وغادر سوريا، إثر خلاف مع قادة الألوية المدرعة في الجيش.

ملَّ الرئيس حافظ الأسد مناحرات ضباطه العسكريين الكبار. فعكف في الثمانينات على إنشاء عدة أجهزة مخابراتية، ما لبثت أن تضخمت. وحيدت المؤسسة العسكرية. فَأَمِنَ النظام احتمال الانقلاب العسكري. وبعد وفاة الأب (2000)، تولى رجال عائلة الأسد وأقاربها المقربون إدارة معظم الأجهزة الأمنية وفروعها، بمعرفة الابن بشار. وكانت إساءة هؤلاء معاملة الآباء في محافظة درعا الجنوبية الذين شكوا من اعتقال أبنائهم الطلبة، الشرارة التي أشعلت الثورة السورية.

شكا بشار علنا ومرارا من ضآلة عدد الشرطة. قال إن السوريين لا يريدون الانخراط في جهاز الشرطة. لكن لم يقل السبب. فقد تبين أن شرطته السرية (الشبيحة) كانت احتياطي النظام. شاركت في المذابح. فتعرضت إلى مذابح. فما كان من النظام إلا أن زاد الطين بلة، بإنشاء ميليشيا مسلحة جديدة في المدن والمناطق التي يسيطر عليها.

في الديمقراطيات الغربية، أجهزة الأمن هي أجهزة الدولة. أجهزة مستقلة عن النظام السياسي، سواء أتت الانتخابات الشعبية بحكومة من اليسار. الوسط. اليمين.

هذا هو الدرس الذي يجب أن يعيه النظام الجمهوري لا ميليشيات مسلحة. لا أجهزة أمن سرية. فهي الخطوة الأولى المشؤومة نحو الجمهورية الفاشية. نحو القضاء على الديمقراطية. والحرية. لعبة المخابرات دمرت علاقة النظام الجمهوري بالشعب. وأفسدت علاقة الثقة بين العرب والعرب.