كاتب النظام الذي أضاعه بشار

TT

عندما قرأ السنيور لاغوارديا عمدة نيويورك الأسبق الكلمة التي أُعدت له، لإلقائها في حفل عام، وقع على قفاه من شدة الضحك. فقد ضمَّنها كاتبه نكتة أوقعت العمدة ذا الأصل اللاتيني، في مأزق حرج أمام الجمهور. فلم يكن قد قرأ الكلمة قبل أن يلقيها.

وظل كاتب القصة الأديب فؤاد الشايب يُرَصِّع الخطب التي يكتبها للرئيس شكري القوتلي، بتعبير «هذا يومٌ». وَمَلّ العسكر «أيام» الرئيس الراحل، فدبروا انقلابا عليه (1949).

وفي عصر الإعلام الحديث، بات للرؤساء أكثر من كاتب واحد. وحتى باراك أوباما الذي يُعد أفصح وأبلغ رؤساء أميركا. لديه عدة كتّاب. بينهم متخصصون في النكتة.

وخسر الرئيس حافظ الأسد كاتبه السياسي الناجح أحمد إسكندر. فقد اختاره وزيرا للإعلام. ولم تطل الحياة بالوزير الصامت. فقد خطفه باكرا السرطان. لكن بعدما اختار لرئيسه الصحافي المخضرم جبران كورية مديرا لمكتبه الصحافي.

ونجح جبران في وضع اسم سوريا على خريطة العالم الإعلامية. بل غدا مستشارا سياسيا نافذا لدى الرئيس الأب. فأحاله الرئيس الابن إلى التقاعد. وإلى الآن، لم يعثر بشار على ناطق باسمه قادر على لملمة ثرثرته، في تعليق معبِّر، أو تصريح مختصر.

في الديمقراطيات الغربية، ليست هناك وزارات إعلام. هناك مكاتب إعلامية شبه خفية ملحقة برؤساء الجمهوريات والحكومات. ومديرو هذه المكاتب يؤدون المهمة الحقيقية لهم: الإيحاء للإعلام السياسي المستقل، بإثارة قضايا، يكون للنظام والحكومة مصلحة في طرحها، على الرأيين الداخلي والعالمي، لجس النبض. أو للترويج لسياسة معينة. أو للبلبلة. وفي إسرائيل، هناك مستشارون سياسيون وصحافيون يلعبون هذا الدور الإعلامي المعقد، انطلاقا من مكتب رئيس الحكومة.

غير أن محمد حسنين هيكل (88 سنة)، يبقى في عصرنا الإعلامي الراهن، أنموذجا فريدا للالتحام التام، بين الصحافي وزعيمه السياسي. بل أستطيع أن أقول إن الصورة الإعلامية للرئيس جمال عبد الناصر، كإنسان. وأب فاضل. ومسؤول نزيه. وزعيم له جماهيرية شعبية، هي من صناعة رجل إعلام فذّ.

هيكل الذي كتب لعبد الناصر كتاب «فلسفة الثورة» لم يزعم قط أنه الكاتب الذي فلسف ثورة عبد الناصر. بل كان في مقالاته، يحرص على أن يبدو وراء زعيمه بمسافة بعيدة. ولهذا السبب، غاب كل الكتاب الذين أوهموا القراء، من خلال السطور، أنهم الكتاب الوحيدون للزعيم الأوحد.

يخطئ القارئ إذا ظن أني أقصد كتّابا، من أمثال ووزن محمد التابعي أستاذ هيكل. ومصطفى وعلي أمين. وإحسان عبد القدوس. فقد كانوا مقتصدين جدا، في مديح عبد الناصر. وكان عبد الناصر أذكى من أن يتجاهل كتّاب هذه المدرسة «التابعية». يتصل بهم يوميا. يناقشهم في عناوينهم. وهو يعرف أنهم أعدى أعدائه. وكارهون لحكمه المطلق.

في وعيه الفريد لقيمة رجل الإعلام في السياسة، كان عبد الناصر يأخذ هؤلاء الكتاب معه في رحلاته، الأمر الذي لم يكن الملك فاروق يفعله، إلا مع محمد التابعي.

لماذا تعززت هذه العلاقة بين السياسي والصحافي؟ لأن كتّاب المدرسة التابعية لم يكونوا فقط كتّاب سياسة. كانوا أيضا كتاب الحياة اليومية، في كل ألوانها، بما في ذلك الحب. وبالتالي، لم يكن عبد الناصر يستطيع أن يُنْكِرَ عليهم شعبيتهم لدى قارئ محب لهم.

نشر التابعي مذكراته عن آمال الأطرش (أسمهان). وكانت هذه اليوميات قطعة رائعة من فن الرواية الصحافية، على غُرْبَتِها عن كتاباته السياسية التقليدية. وإن كنت أعتقد أنه بالغ جدا، في زعمه عن علاقته العاطفية معها، أو عن دورها السياسي، كوسيطة بين الإنجليز ودروز سوريا ولبنان، خلال الحرب العالمية الثانية.

المؤسف أن هذا اللون السياسي/ الشخصي للصحافي العربي قد انتهى. هناك اليوم معلق سياسي فقط. ليست هناك علاقة حياتية بين كاتب اليوم وقارئ اليوم، كما هي العلاقة الدائمة بين سعيد فريحة وقارئ «الصياد». وحتى المعلق ميشال أبو جودة الذي ابتكر لغة سياسية جديدة في رشاقتها المختصرة، انتهى بمجرد وفاته المبكرة.

المؤسف أيضا أن الأدب الصحافي ليس خالدا خلود العمل الروائي الأدبي. مَنْ يقرأ اليوم مقالات هيكل السياسية الخمسينية والستينية؟ لا أحد. لأن قيمتها انتهت بنهاية ظروفها. تبقى قيمتها «الفنية» لدى الباحثين في السياسة. والتاريخ. والصحافة. ولدى طلبة الأطروحات الجامعية.

مع ذلك أقول إن هيكل أذكى من أن يموت على الورق هذه الميتة الظالمة للكاتب السياسي. فقد تمكن من أن ينتقل من مجرد محرر. موفد. كاتب ريبورتاج، إلى معلق سياسي. ثم صعد إلى رتبة مثقف. ومفكر. هو اليوم بين طليعة مفكرينا، على الرغم من عدم إدراكه، لانتقال مركز الثقل السياسي إلى الخليج العربي، في عصر الرئيس محمد مرسي المتربع على كرسي عبد الناصر الواسع جدا.

المثقف السوري يعيش اليوم أزمة فكرية. وسياسية صعبة. قبل أيام، توفي الزميل ورفيق العمر الدكتور غسان الرفاعي (85 سنة) هنا في باريس، بنزيف دماغي، نتيجة مرض السكر المزمن. كان غسان كاتب سوريا الأول، صحافيا ومثقفا، الذي لا يعرفه القراء العرب. فقد كان يكتب في الثقافة في صحيفة سورية محلية، ساهم في إصدارها، في أوائل السبعينات، لمصلحة نظام الأسد.

أعترف بأني لا أحب صحبة المثقفين. ولا أدعي أني مثقف. لكن غسان الرفاعي كان مختلفا جدا عنهم. منذ أن عرفته في منتصف الخمسينات، كان غسان مثقفا ماركسيا. خفيف الظل. ساخرا. بوهيميا. مع، وضد دائما!

رحيل غسان الرفاعي يعفيني من كتم سر مسعاه الدائم لإعادة الوصل بيني وبين نظام الأسد الأب والابن. هذا حديث آخر. إنما أشير إليه، للتأكيد على أزمة المثقف السوري بعد انفجار الثورة السورية. فقد بات هذا المثقف يقف موقف الواجف المتوجس، من الاتجاه الديني المسيَّس الغالب على المعارضة المسلحة. فلماذا يؤيدها، إذا باتت، في اعتباره، لا تقل انغلاقا ودموية عن نظام يقتل شعبه؟!

لم يكن غسان يكتب في السياسة. ولم يكن المثقف السوري الوحيد المطلع على الثقافة الغربية، بأبعادها الإنسانية المختلفة. غير أنه من خلال الثقافة، كان يغمز من قناة الجميع: النظام الدموي. المعارضة التي تعتبر تسييس الدين حلا. وأخيرا، المثقف السوري الصامت خوفا من النظام والمعارضة معا.

كان غسان الرفاعي يقول لابنته: «إذا أضعتني. تجدينني عند غسان». ثم قاطعني بعد انفجار الثورة. فقد كان يريدني أن أحضر وأصفق في استقبال كل وزير وباشكاتب في وزارة الإعلام السورية.

أضاع بشار غسان الرفاعي الكاتب والمثقف المؤيد/ المعارض للنظام! وتبنّى كتّاب السلطة الذين يكتبون، ليقرأهم السلطان وحده. ولعل بشار لا يضيِّع كاتبا مثقفا آخر عاطلا عن العمل. فقد سمعتُ أدونيس يقول لإذاعة عربية محلية في باريس، إن أطفال درعا هم الذين استفزوا بشار. وبادؤوه بالعنف! هكذا مثقف يصلح كاتبا لهكذا رئيس.