العرب أمة أم جغرافيا؟!

TT

ابتكرت حكومة «حزب الله» مبدأ «النأي» ولم تطبقه. الحزب اليوم متورط في حرب «يا قاتل. يا مقتول» في سوريا. وهي دولة شقيقة مجاورة لدولته التي تستوطن لبنان.

نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال متمسك بالنأي الشبيه بالناي الذي يهوى دولته العزف عليه. ومع أن حكومة الملالي استقالت. وباتت حكومة تصريف أعمال، فقد زمَّرت على الناي أمرا، إلى مندوب لبنان غير المستقيل من الجامعة العربية، بضرورة التزام سياسة النأي.

عمليا، باتت حكومة لبنان المستقيلة هي ثالث حكومة عربية تزمِّر مع حكومتي العراق والجزائر، لحساب «حزب الله» وإيران في جبهة القصير. وقد أفتى المالكي وبوتفليقة - شفاه الله - للأخضر الإبراهيمي الذي ما زال مفتي الديار العربية والدولية، بأن النأي عن نظام بشار أمر «بوكو حرام» في الحروب العربية.

أنا رجل ضعيف في الجغرافيا. لم أعرف أن هناك «قصير» حمصية نائية عن «قصير» الدمشقية. وباعتباري من قدماء الشوام الذين نَأَوْا عن الشام منذ أن «غزاها» آل بشار في القرون الخوالي، فقد تذكّرت أني كنت أسمع الدمشقيين يقولون إن فلانا «أخدوه إلى القصير. ووضعوه في العصفورية هناك». والعصفورية مستشفى المجانين عندنا.

لقد عرفت الآن لماذا ارتفع عدد ضحايا الحزب في هذه الحرب المجنونة. فقد نسي حسن نصر الله تمرير قواته في عصفورية القصير الدمشقية، لتأهيلها هناك، لغزوة القصير الحمصية.

شارك هنري كيسنجر في إشعال «جهاديات» أميركا المجنونة، في آسيا وأميركا اللاتينية. وخرج منها بنصيحة قدمها مجانا إلى الرئيس رونالد ريغان: في كل حرب عبثية، يجب أن نساعد الطرفين اللذين أشعلاها على خسارتها. وعمل ريغان بالنصيحة الغالية. فهلك مليون عراقي وإيراني في حرب صدام والخميني. فإذا انكفأت كفّة صدام، زودته أميركا بصور الأقمار الصناعية لمواقع ومحاور قوات الخميني. وإذا تَرَنَّحَ الخميني، بادرت روسيا وأميركا معا إلى تسليحه. فدامت حرب «القصير» العراقية/ الإيرانية تسع سنوات.

حرب عبثية أخرى لم تتوقف بعد. هي تلك الحرب التي تشنها سيداتي. آنساتي. على التاء الأنثوية التي تنتهي بها أسماؤهن. هذا الحرف العربي رمز أنثوي. جميل. رقيق. أنيق. هو أشبه بزهرة الربيع التي تغيب قبل الأوان. ترفع انتفاضة النسوان محل التاء ألفا ممدودة، كرمز للتمرد على الرجل، في حرب لا ضرورة لها ضد شريك العمر.

وأخشى أن تمتد الألف إلى أسماء نسائية طيبة لدينا. ولا أريد أن تتحول الكنانة، في عصر «إخوان الصفا. وخلّان الوفا» إلى «مصر المحروسا». أو «المحبوسا».

نعم «كيدهن عظيم». لكني لست ضد المرأة. لنتذكَّرْ أن ألف فتاة امرأة عاملة. كادحة، قُتلن منذ أيام قليلة، عندما سد أصحاب مصانع النسيج في بنغلاديش، سُبُل النجاة عليهن. مع ذلك، كناخب لم يسبق له أن صوَّت. وَتَرَشَّح، لست مع تخصيص نسب محددة سلفا، من المقاعد النيابية للمرأة. المرأة تحتل مقعدها بنجاحها. وليس بـ«الكوتا». وبإقناع الرجال والنساء بكفاحها، للتصويت لها.

من الخداع أن تهاجم المرأة الرجل في البرلمان. وتستسلم لرغبته ومشيئته في البيت. ولا أدري ما إذا كَفَّت الديمقراطية الجزائرية عن السماح للزوج بالتصويت بالنيابة عن زوجته، إذا حمل بصمة أصابعها على ورقة الانتخاب.

المرأة في السياسة أصعب من المرأة في الحب. المرأة السياسية قطة عنيدة لا ترحم. تجربة النائبة الأردنية تحت القبة النيابية لم تكن ناجحة. النائبة الأردنية كانت «نائبة» حقا. فقد تجرأت حتى على ضرب زملائها أصحاب الشوارب المفتولة، تحت الحزام.

المرأة تمارس السياسة بأظافرها. اتُّهمت تانسو تشيلر التركية التي حالفت الإسلاميين بالفساد. خَصَتْ أنديرا غاندي الرجال للتخفيف من إنجاب النساء. وسرحت مارغريت ثاتشر العمال، لتنقذ الرأسمالية المتوحشة. وأرسلت الرجال إلى حرب غير عادلة، على بعد آلاف الأميال. ثم ماتت بالعته (ألزهايمر).

كم أتمنى أن تتظاهر الأم. الأخت. الابنة. الزوجة اللواتي تلقين صاروخي كاتيوشا (وليس غراد كما أشيع) في ضاحية بيروت الجنوبية، وذلك ضد حسن نصر الله الذي أرسل رجالهن، إلى القتل أو الموت، في جرود القصير.

أخيرا، هل العرب أمة أم جغرافيا؟ سؤال صعب يعذِّب النفس والقلب، منذ حرب داحس والغبراء، إلى «جهادية» الشيعة والسنة في القصير. أعتقد أني ألتزم الواقعية، عندما أعترف بأن العرب تاريخ، كان لهم طموح جارف فيه، إلى أن يكونوا أمة، في دولة واحدة. لكن دينهم فرض عليهم أن يكونوا، في عصر إنساني مبكر جدا، كرماء. نبلاء في حقوق الإنسان. فساووا أنفسهم بغيرهم إذا دخلوا دينهم.

في زمن الانكسار، أشعر بغصة في القلب، عندما أسمع. وأقرأ كتّابا. مثقفين. ومفكرين كبارا، وهم يتحدثون عن «شعوب عربية»! عندما أكتب أتحدث عن «مجتمعات عربية»، وفي ظني أن ما يجمعها أكثر قوة وأهمية، من كياناتها السيادية التي مزقتها دولا مستقلة عن بعضها بعضا.

هذه المجتمعات تبرهن، عفويا، على أنها أمة. وليست شعوبا. فما زالت تجهل مكوِّنات الأمة الواحدة: وحدة الثقافة. مزاجية. وعواطف. ومصالح مشتركة. وآلام وآمال وطموحات واحدة. وقبل كل ذلك، بقايا لغة رائعة تحاول الصمود أمام عوامل الحتِّ والتعرية. كي لا تغدو لهجات محلية. ولغات عامية. مَحْكِيَّة.

نعم، العرب تاريخ لأمة. وليسوا أمة لها تاريخ. الفرق دقيق. فشلُ العرب في أن يكونوا أمة ذات كيان سياسي واحد، أدى بهم إلى أن يصبحوا في زمن الردَّة والانكسار، مجرد جغرافيا سياسية. الأمثلة كثيرة: صحف. تلفزيونات. إذاعات عربية، تتحدث بلغة وكالات الأنباء الأجنبية عن «شمال أفريقيا» لا عن المغرب العربي. عن «الشرق الأدنى» لا عن الخليج العربي. عن «قضية الشرق الأوسط». لا عن القضية الفلسطينية. عن دول عربية «متوسطية». لا عن أمة تطل على أهم المحيطات. وتتحكم بمفاصل أهم البحار...

لا أريد أن أسترسل، كي لا أتهم بأني «قومجي» يتكلم لغة خشبية. ويمارس «النأي» عن واقع العصر الراهن. فالعروبة باتت اليوم سُبَّة وسخرية! حتى دكاكين الثورة السورية لا تجرؤ على التصريح بعروبة سوريا. كي لا تزعل أقلياتها العرقية. أو تزعج العواصم الكبرى التي تتلاعب بها. وسأظل أقول لا ضرورة لسوريا بلا انتماء. بلا هوية. ولا دور لسوريا بلا عروبة. ولا عروبة لسوريا بلا ديمقراطية.