محمد عساف «الظاهرة».. غزة «الجديدة»

TT

يوم استكملت حركة حماس سيطرتها على غزة (الجمعة 15 يونيو/ حزيران 2007) لم يكن محمد عساف أكمل السادسة عشرة (مولود في 10 سبتمبر/ أيلول 1989). نهار وصول محمد عساف إلى خان يونس، عائدا من بيروت بنجومية «آراب أيدول» عصر أول من أمس، الثلاثاء، كانت حماس أكملت ست سنوات في الحكم.

لماذا الربط؟ لكثرة ما طالعت من آراء استغربت، أو استهجنت، ظهور ظاهرة بحجم محمد عساف في ظل حكم موسوم بتشدد ديني. ثمة رأي يبالغ، إذ يضع سلطة حماس في سلة واحدة مع حركة طالبان. وهناك آراء يغيب عن أصحابها تباين درجات المرونة والتشدد بين الحركات الدينية.

وضع المسافة بين حماس وطالبان لا يلغي أننا أمام حالة جديدة. غزة محمد عساف 2013 ليست هي ذاتها غزة إسماعيل هنية 2007. ليس المقصود الشخص هنا، بل الحالة، إذ حتى لو أن فتح تجلس محل حماس الآن سيكون عليها إدراك التغيير الذي يحصل في المجتمع.

إذا كان الساسة هم من يكررون القول الشهير: «السياسة فن الممكن»، فكيف يمكن أن يغيب عن أذكيائهم أن في مقدم أسباب التمكن تفهم المزاج الشعبي؟ تفهم كهذا سيوجب المسايرة، وهي بدورها تبرر تحييد بعض مفاهيم متصادمة مع مزاج، توجه، إحساس، مطلب، أو ظاهرة ما، لأي منها حضور مهم ومؤثر بين الناس. والحال هكذا، سيكون مستغربا أن تجدف سلطة حماس، وكذلك إدارة الرئيس محمود عباس، باتجاه معاكس لتيار شعبي، عفوي، وجارف، أنزل محمد عساف في القلوب والمنازل منزلة يغار منها معظم السياسيين، في الحكم هم أم المعارضة.

ثمة مبالغة؟ ربما. لست متأكدا. إنما المؤكد أن محمد عساف مثال متألق يضاف إلى ظاهرة تتجاوز فلسطين، والعالم العربي، إلى الحيز الإنساني.

حتى مساء السبت 11 أبريل (نيسان) 2009 لم يكن أحد، خارج حدود معارفها، يعرف شيئا عن الاسكوتلندية سوزان بويل. صدعت حنجرة سوزان بـ«حلمت حلما» من رائعة فيكتور هوغو «البؤساء»*، فإذا بالذهول يسيطر على الجمهور، بدءا من لجنة تحكيم برنامج المواهب البريطاني (BGT). ثلاث دقائق غيرت مسار حياة سوزان بويل، ذات الاثنين والخمسين عاما، من مواطنة متواضعة إلى نجمة عالمية.

قبل 2008 قليلون داخل غزة ذاتها كانوا يعرفون الكثير عن محمد عساف. بعدها، اختلف الأمر. سمعنا عنه، وسمعناه يناشد بلده، بحنجرة ابن الحادية عشرة، أن «شدي حيلك يا بلد». بوسع أي متأمل، بشيء من التدقيق، لمقاطع من أداء محمد عساف، أن يلحظ قوة حضور النجم بين الجمهور، بدءا بلجنة التحكيم ذاتها. لست أدعي معرفة بالنقد الموسيقي، إنما لنقل إنني، مثل ملايين الناس، أخذت بتميز الصوت أولا، ثم إنني بعين الصحافي رحت ألحظ مدى التفاعل بين النجم وجمهوره، الثقة الواضحة بالنفس، الثراء في التنقل بعذوبة الغناء من فلسطين وجراحها، كوفيتها وأسراها، إلى شجن القلب في «كل ده كان ليه»، أو «الزينة لبست خلخالا»، و«يا بنت السلطان». كل هذا من شاب لم يزل دون الثالثة والعشرين، تذكر طلته بعندليب مصر والعرب، فكيف لا يحتل مكانة الظاهرة؟

ذلك كله، يجب أن لا يحول دون بعض الإشفاق على ما ينتظر محمد عساف، فنانا وإنسانا. الأرجح أن يحمل عساف الفنان فوق طاقته، إذا حوصر ضمن إطار الأغنية الوطنية. والأغلب أن يطالب محمد عساف، الشاب الفلسطيني، بأكثر مما يحتمل، كإنسان، من متطلبات الالتزام السياسي. بل إن الفنان النجم راغب علامة، الذي بدا شديد التفاعل مع عساف، سارع إلى إعطائه صفة «الصاروخ الفلسطيني»، تلك مشاعر وطنية مفهومة، إنما آمل أن يعطى محمد عساف، النجم الظاهرة، ما يستحق من فسحة الحرية الشخصية، وإمكانية الاستمرار في تطوير قدراته الإبداعية من دون ضغوط مرهقة.

مفرح أن ترى كل هذا الفرح يغمر الناس، لا في غزة وحدها، أو فلسطين من عكا إلى رفح، بل بين العرب أجمعين، كأنما طال الشوق للحظات بهجة تحلق كما الفينيق من بين ركام العذابات والآلام، إن بفلسطين، أو سوريا، أو العراق. شكرا محمد عساف. شكرا «إم بي سي».

* بدأ عرض مسرحية «البؤساء» الموسيقية في لندن ربيع 1985 ومستمر حتى الآن.