مصر كمثال: حالة عربية تتكرر.. جدال لا يتسع لرأي الآخر

TT

ديمقراطي يصف مع عسكري يقلب الرئيس المنتخب. ليبرالي يقف في صف حكم مرشد ديني يريد أخونة المجتمع. جيد، ما المشكلة؟ في أجواء عادية، يفترض ألا يعترض أحد، أو حتى يبدي بعض استغراب. ذلك أن حرية الرأي تضمن للجميع حق قول ما يؤمن به أي فرد، ثم إن البلد يتسع لكل معتقد. إنما السؤال: أين هي الأجواء العادية عندما يضيق صدر الأغلبية فلا يحتمل أنفاس الأقلية، أو العكس، فإذا بالديمقراطي يمسك بخناق الليبرالي، وكلاهما يعارك القومي، بينما الديني المسيّس يقبض على أعناق ثلاثتهم؟

ثمة وجه آخر للمشكلة، إذا حصل الإقرار بوجودها، بدلا من الفرار من مواجهتها إلى جحر نكرانها. فالديمقراطي المنسجم مع الإجراء العسكري، يعمد إلى رفض وجود أي تناقض بين مبدأ ديمقراطيته، وبين الاستعانة بالرشاش لإزاحة الآتين للحكم عبر صندوق الاقتراع، وتراه يسارع إلى الدفاع عن الجيش، فينفي عنه أنه انقلب، بل هو لبى نداء الشعب، وتحرك ليحمي الثورة.

في الضفة المقابلة، لا يبدو حال الليبرالي، أو القومي، أفضل. فهو إذ يواجه ببعض دهشة، أو رفض لما رأى، تراه يفر إلى إنكار تأييد تسييس الدين، أو حتى التعاطف مع أفكار جماعة تجهر بأن تطبيق الشريعة غايتها، ومن ثم ينطلق إلى مظلة واقية يستظل بها هي القضية القومية، باعتبار أن مواقف الآخرين منها هي حكم موقفه من أي طرف.

كل ذلك جيد، أيضا، ليس الضرر في شرح ما قد يبدو متناقضا، إنما هو في رفض الاستماع للشارح بآذان واعية وللتسامح ساعية، وما الضرر في تشدد الرافض لمطلب تبرير ما هو واضح التضارب بين أبيض وأسود، وإنما هو في اعتباره مسبقا أن مجرد استيضاح التضارب يشكل إهانة أو تشكيكا. ذلك يعني أن حقيقة الضرر، ولست بالضرورة على صواب، هي في تكرار حالة رفض الغالبية العظمى من أهل الرأي، للرأي الآخر، ورمي المختلفين بعضهم البعض بحجارة ليست تليق بحوار المتحضرين.

تلك حالة عاشها العرب منذ آلاف السنين، وكي نتجنب الغرق في رمال الماضي البعيد، يكفي استحضار ما جرى منذ عصفت رياح ثورة الخميني بالمنطقة. لم يختفِ بعد صدى التراشق بنيران نبال الاتهامات بين قبائل المفكرين العرب. وعندما شب حريق الحرب بين العراق وإيران، استعر معها سعار الخلاف فطال كل الأطراف، وراح هذا يسأل: كيف لقومي علماني أن يقاتل، بالرأي، في معسكر الخميني ضد الشقيق العراقي؟ وصاح آخر يتساءل: كيف يجوز للمؤمن معاضدة نظام يفصل الدين عن الدولة؟

وهكذا، ظل عقد المسبحة ينفرط، عقدا بعد عقد. منذ كامب ديفيد، مرورا بحرب لبنان، فحروب إخوة أعداء، ورفاق ألداء، من فلسطين إلى ليبيا، فسوريا والعراق، لا شيء يتغير، هو الحال يتكرر، يستنسخ ما مر من قبل، يستصرخ ما تردد من صراخ الأمس، الغالبية بين صناع الرأي العربي، ترفض إعطاء الغير الحق في هامش من الصوابية، حتى لو أظهر البعض غير ذلك، إذ النية الخالصة تضع الشخصانية جانبا وليس في رأس القائمة، وهذه حالة لم يرقَ إلى مستواها، بعد، معظم من يدعي وصلا بها.

والنتيجة تنزلق مصر، رويدا رويدا نحو نفق الفوضى، كي لا أدع التشاؤم يطغى فأقول نحو مستنقع حرب أهلية، في حين يحمى وطيس الجدل بين تقييم ما جرى، انقلاب عسكر أم إنقاذ ثورة، وأعود فأكرر أن ليس المشكل في الجدل ذاته، إنما فيما يوصل إليه، هل يوسع الجفوة بين عموم المصريين - ليس فقط بين المختلفين من ساسة ومفكرين - أم يجسر المسافة من أجل مصر، الحاضر والمستقبل، قبل غيرها؟ سؤال برسم المعنيين حقا بمضمون وهدف ما يجري من سجال.

***

شخصية الوطن تتقدم على الشخص

أحب جمال حمدان مصر، فتن بشخصيتها، فتش عنها، أمضه القلق، فأمضى جل العمر ينقب بين ورق التاريخ وخرائط الجغرافيا، يريد خارطة طريق تدل الباحثين، اعتزل البشر، حتى الأهل والخلان، صام عن الطعام، أو كاد، فما تناول سوى القليل يسد به الرمق، انكب يدرس، يتأمل، يرسم جداول وخرائط، ولما تمكن، كتب عن شخصية مصر وعبقرية المكان، فاستحق بعد موته المبكر (17 أبريل/ نيسان 1993 - عن 65 عاما) ما لم يلقَ طوال حياة كان القلق جذوتها. قدم شخصية مصر على شخصيته هو، فأعطى بلده استحقاقها، وما أعطى ذاته حقها.

***

يرحل البدن ويبقى الكتاب

كم من مانديلا في عالمنا؟ واحد فقط اسمه نيلسون. إنما، بالتأكيد، بين ناس كثيرين هناك منديليون يصعب حصرهم، مثلما يوجد غانديون بلا عدد، وبالطبع، تيريزيات هن أمهات بإرضاع الحب والحنان لملايين لم يلدن. المانديلية، ومن قبلها الغاندية، وبينهما الأم تيريزا، حالات تظهر بين حين وآخر كي تذكرنا بأن بشرية الإنسان يمكن أن تنتصر على بهيمية الحيوان. الخير هو الأصل، لكن الشر رافق البشر منذ البدء، وسيظل، كلما تعاقب النهار والليل. نعم، كالسابقين واللاحقين، إذ لكل أجل كتاب، سيرحل نيلسون مانديلا، يطوي البدن الثرى، وأما الكتاب فيبقى ما بقي الزمن.

[email protected]