توعية العرب بالمشروع الإيراني

TT

هل الأمة العربية في حالة حرب؟ نعم، العرب في حالة حرب. أو بالأحرى، نحن في حالة احتراب طائفي. مذهبي فُرض علينا. لكن لا نريد أن نعرف. لا نريد أن نصدِّق. دول عربية تعرف. ولا تريد أن تعترف. دول عربية لا تعرف. ولا تريد أن تعرف!

لماذا نحن بَيْنَ بَيْن؟! لأن الإعلام يكتب عن أزمة. ولا يكتب عن حالة حرب. الرأي العام العربي يتابع تطورات الأزمة. يقرأ. يسمع التعليق على أحداثها «العابرة». ومعظمه لا يعرف ثوابتها: أسبابها. جذورها التاريخية. ووجوهها المتعددة.

منذ أكثر من عامين، والإعلام العربي يعلق على تطورات الأزمة. لكن ماذا عن ثوابتها وأصولها؟ لا شيء! لأن الإعلام لا يملك مراكز بحوث كافية. ولا مراجع ودراسات جاهزة. لدينا علماء اجتماع. تاريخ. سياسة. فلماذا لا نسأل هؤلاء؟!

مات أخيرا العالم العراقي عبد العزيز الدوري. كان نصيبه من اهتمام الإعلام العربي أقل من نصيب الراحلة وردة (مع احترامي الكبير لفنِّها). كتب الرجل. عن الشعوبية. عن المذهبية. الطائفية. عن عروبة العراق. عن الحضارة العربية. عن علاقة العراق والعرب بالفرس... سجل كل ذلك بحياد الباحث. وروح المدقق. وعمق المفكر. أدعو إلى تدريس مؤلفات الدوري وأمثاله، في كليات التاريخ. والاجتماع، على الأقل، إذا أردنا أن نعرف.

كان النظام السوري وحلفاؤه يخوض معركة بقاء في سوريا، منذ مايو (أيار)، تحول الدفاع إلى هجوم. فقد قررت إيران خامنئي. نجاد. قادة فيالق القدس والحرس الثوري، إنقاذ وحماية المشروع الايراني في المشرق العربي. فزجَّت أولا بـ«حزب الله» في الحرب.

لأول مرة، يقاتل «حزب شيعي» عربي مموَّل ومدعوم من إيران، أشقاءه العرب السنّة في أرضهم. في سوريا. فيواصل القتل المبرمج. والتدمير المُمَنْهج اللذين بدأهما النظام السوري.

في معركة احتلال حمص، يحيق الدمار بمسجد خالد بن الوليد المدفون في المدينة. ماذا تعرف عن هذا الصحابي. البطل. القائد العسكري؟ عندما اشتدت الوطأة على جيش العرب المسلمين، بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، نقل أبو بكر وعمر البطل خالد، من جبهة العراق إلى جبهة الشام.

كان ابن الوليد القائد الميداني الفذّ. رأى خالد أن استكمال تعريب سوريا وأسلمتها يتطلب استنزاف الجيش الإمبراطوري البيزنطي. فَرَكِبَ الصحراء في مقدمة كوكبة خفيفة من الفرسان العرب. وراح يتحرك بسرعة. يظهر فجأة. ليفاجئ. ليُغير على حاميات دمشق. حمص. حماه. ثم يختفي شبحا في جوف بادية الشام.

عندما خسرت بيزنطة حرب المعنويات، انقض خالد مع جيش أبي عبيدة على المدن الثلاث، فاتحا إياها الواحدة بعد الأخرى. لم يخسر خالد معركة أو مبارزة في حياته. عندما حرر سوريا استقر في حمص. فكرمته المدينة بإطلاق اسمه على أكبر مساجدها. عندما أدركته الشيخوخة، راح يرثي نفسه. كان متألما لموته في الفراش. وليس في الميدان. ولم يكن في جسده الفولاذي موضع، إلا نالته فيه طعنة سيف. أو رمية رمح. أو ضربة خنجر. وفي احتضاره تنهد: «لا نامت عيون الجبناء».

الويل للكبار من الصغار. ها هو صغير النظام يعلن الحرب على حمص. يشرد سكانها (أكثر من مليون نسمة). يجيع الألوف الباقية من سكانها المحاصرين. يدمرها حيا بعد حي. وشارعا وراء شارع. ها هو يحاصر مسجد خالد بن الوليد بألوف من جيشه الطائفي، وبألوف من ميليشيات في إيران. والعراق. ولبنان.

أين الثوار؟! ألهتهم الغنائم في الشمال والشرق. هذا يبني إمارة إسلامية في حلب. ذاك يبني دويلة كردية على الحدود مع تركيا. الآخر يبني دولة نفطية في الرقة. ودير الزور. أين العرب؟! إن كنتَ تدري فهي مصيبة. وإن كنتَ لا تدري، فالمصيبة أعظم. أين الكتاب. والإذاعات. والتلفزيونات؟ لماذا لا نكتب، خيرا من هذه التعليقات المكررة، عن تاريخ العرب في سوريا قبل الإسلام وبعده، توعية وإحياء للمعنويات، في هذا الاحتراب الطائفي والمذهبي المَقيت؟

مات القائد الميداني الفذّ. فألح القائد الاستراتيجي عمرو بن العاص، على عمر بن الخطاب، أن يسمح له باستكمال بناء الدولة العربية. فأذن له بعد تردد. فسار عمرو إلى مصر. فتحها بسهولة. في دهاء عبقريته، آخى في الدين بين المصريين والعرب المسلمين. فدخلوا في الإسلام أفواجا. استعربوا بسرعة. تَسَاوَوْا مع إخوتهم العرب في الحقوق والواجبات. ماذا تكون حال العرب، لو لم يتم تعريب مصر. تعريب هذا الشعب العريق؟

تفرّقت أسرتي في أمصار العرب. لي شقيق يعمل في الترجمة. لا في السياسة. نزح مع أسرته وأطفاله إلى مصر. ما أطيب هؤلاء المصريين. يقول لي: «حتى سائق التاكسي الكادح يرفض أن ينال أجره، عندما يعرف أنك سوري نازح».

فرق تسييس الدين بين العرب. في ذروة أزمة مصر مع «الإخوان»، فتحت مصر ذراعيها لمئات ألوف السوريين النازحين. تورط فُرادى منهم، في إظهار الحماسة للإخوان. فأثار حساسية وغضب المصريين. أصيب السوريون بالعدوى من أشقائهم الفلسطينيين الذين جلبوا على أنفسهم الكوارث، من التورط في السياسات المحلية والداخلية، في الدول العربية المقيمين فيها.

الدرس الأول في أدب الضيافة، أن تكون محايدا. السوريون الذين صفقوا لـ«الإخوان» وهم في ضيافة مصر، لا يعرفون أن الرئيس المخلوع محمد مرسي زار إيران وتركيا، مُلِحّا على تشكيل محور إقليمي ضد المحور العربي الخليجي الذي كان أول من قدم الدعم والتأييد لعرب سوريا في محنتهم.

خامنئي على طريق الشاه وخميني، في استعادة مشروع التوسع الإمبراطوري. أرسل الشاه موسى الصدر إلى لبنان، ليسحب شباب الشيعة من الأحزاب السياسية. استكمل خميني وخامنئي المهمة بعد الشاه. خامنئي رجل دين وسياسة يعرف أن أكثر من مائة ألف مسلم سوري قتلوا في حرب النظام السوري. يسكت خامنئي عن المجزرة. يدعم. ويبارك حاكما يتهم شعبه كله بالخيانة! فيذبحه. يشرده. يدمر مدنه. وقراه. واقتصاده.

الاحتراب الطائفي والمذهبي أشد الحروب الأهلية وحشية. وهولا. وبشاعة. العرب يواجهون حالة الاحتراب التي فُرضت عليهم. أعداؤهم يد واحدة. والعرب أيادٍ. ودول متفرقة.

يبقى واجب الإعلام العربي، في هذه المرحلة العصيبة، توعية العرب الذين يعرفون. والذين لا يعرفون، بأنهم هم أيضا يواجهون حرب بقاء ومصير. حربا آيديولوجية تتجاوز الحدود. والقارات. والسيادات. والاستقلالات، لتفرض انقساما على العرب. على مستوى آيديولوجي. شعبوي. طائفي. مذهبي.

بعض العرب يترددون. يتمسكون بأدب «الحياد الإعلامي». ما زالوا يعتقدون أن الوجود العربي في أزمة. وليس في حالة احتراب طائفي. يعتبر اقتران العروبة بالدين أسلمة «رجعية» للعرب! بعض العرب يعتبر الدعوة للعودة إلى العروبة، كبديل للانتماءات الضيقة، مجرد دعوة عنصرية شوفينية. وبعض العرب مع «حزب الله» الذي يرى أن مقاومة إسرائيل تفرض شن هذا الاحتراب على مجتمع عربي يعاني من حكم نظام صامت عن تهويد واستيطان الجولان منذ خمسين سنة.

توعية العرب بمهالك الاحتراب المذهبي والعنصري الذي تفرضه إيران عليهم، لا تعني الخوض الفقهي في غيبيات المذاهب غير السنية، إمعانا في توسيع حرب بشعة. غرض التوعية الإعلامية وضع المذهب السني حيث كان ويجب أن يكون، في خدمة العروبة. وللتكييف بين الشورى والديمقراطية. وبالتالي، فالدفاع عن المذهب السني المنفتح وغير المتزمت في سوريا، هو أيضا دفاع عن عروبتها الأصيلة، وإسلامها الصحيح.