العلم عند الحكم لا عند العلم

TT

خلال البحث في مادة «أوراق السندباد» أردت أن أعثر له على غايات أفضل من التيه فوق الأمواج وأودية الزجاج، فتخيلت أنه أرسل حول نصف الكرة في مهمة العثور على أمهات الكتب. لكن كيف يكون ذلك وهو قد «عاش» في عصر الخليفة الرشيد، كما روت الأساطير والمخيلات، في حين أن عصر الكتب والمعرفة هو زمن الخليفة المأمون؟ ما دمت في صدد «رواية» ففي إمكانك أن تمزج العصور وتقدم زمنا على زمن، من أجل الوصول إلى «بطل» لائق، محبوب، وأقل «تفشيرا» من السندباد الأول.

في خلال البحث عثرت على حقيقة مذهلة. اصبروا معي قليلا. بين الكتب التي نقلت إلى بلاط المأمون من الهند واحد عمره 200 عاما بعنوان «افتتاح الكون». كان العالم العظيم الخوارزمي يعرف القليل من السنسكريتية. لكنه بعد قراءة بضع كلمات نادى على المترجمين في «بيت الحكمة»، وقال لهم: أسرعوا في هذا. وكانوا كلما انتهوا من فصل طلب آخر. لقد وجد نفسه أمام كنز لا سابق ولا لاحق له في علم الحساب.

لاحظ العالم العبقري بقعة سوداء في الأرقام الهندية. بقعة سوداء تعني اللاشيء. لكن الخوارزمي سوف يحولها إلى أساس كل الأشياء. نقلها من بقعة سوداء إلى دائرة مفرغة وسماها الصفر، وبذلك بدأ النظام العشري. وسوف يلحق العالم أجمع بالرجل، ثم تعتمد معاهد الأرض على كتابه في الجبر. لقد تجاوز، مع مقلديه من علماء المسلمين في ما بعد، ما توصل إليه الأغارقة والهنود من قبل. وقد قدم فوائد «الجبر» في الكتاب بقوله إنه «سوف يوفر الأسهل والأكثر فائدة في علم الحساب، في ما يطلبه الناس في ضبط الإرث والقسمة والتجارة وقضايا للحاكم، وفي الصفقات، أو في قياس الأراضي وحفر القنوات والحسابات الهندسية وغيرها من المسائل المشابهة».

برأي مَن كان الخوارزمي يستنير؟ مَن استشار في أهمية كتاب «افتتاح الكون» حيث عثر على البقعة السوداء؟ برأي سيده المأمون. لم يكن الخليفة يجمع الكتب، بل كان يتعب ويتمتع في قراءتها. من أجل أن تصبح بغداد عاصمة العالم كان لا بد أن تستوعب حضارات العالم أن تفيد منها وأن تؤثر فيها.

كان ذلك، ربما، أهم عصور تلاقي الحضارات في العالم. أكثر مما حدث زمن الإغريق أو الرومان. وإذا كانت قصور الكتب شغف المأمون، فلماذا يريد عمرو بن العاص إحراق مكتبة الإسكندرية؟ من ينشىء عصر العلم وأزمان النهضة، العلماء أم الدولة؟ الدولة أولا. الخوارزمي نتاج زمن المأمون. هو الرجل الذي جعل من الممكن بناء البروج الشديدة الارتفاع والجسور الهائلة، ويدين له إلى اليوم المهندسون الذين يبنون عربات المريخ أو الطائرات.

لا شأن لبغداد الحديثة بكل ذلك، فهي مرتاحة هانئة تنعم بنعم «دولة القانون». أقسم أن الدكتور نوري المالكي رجل شجاع. مَن غيره يمكن أن يطلق هذا الاسم السحري على عراق الحاضر؟