«مدينة بلا شفقة»

TT

كانت الولايات المتحدة يوما ما هي أرض الحريات، وكانت تقول للعالم: «أعطوني المنهكين والفقراء المتشوقين إلى تنفس الحرية والراغبين في الرحيل عن أوطانهم المزدحمة. أرسلوا هؤلاء ومن لا مأوى لهم ومن تتقاذفه العواصف، فأنا أرفع مشعل النور بجانب الباب الذهبي!».

واليوم، أصبحت الولايات المتحدة - على الأقل من حيث الإجراءات والتراخي من جانب المنبوذين الذين يجوبون أروقة السلطة ومن يضعهم هناك - تعاني الانعزال والقسوة وعدم الاكتراث، وأصبح الناس يرون أن الرفاهية مسؤولة عن زيادة الفقر وليس التخفيف من حدته. وأشار استطلاع للرأي صادر عن شبكة «إن بي سي نيوز» وصحيفة «وول ستريت جورنال» في شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى أن السبب الأول في أزمة الفقر المستمر لدينا هو «الكثير من الرفاهية التي تمنع المبادرة».

في الولايات المتحدة الآن، يستطيع مجلس النواب - كما فعل في يوليو (تموز) الماضي - تمرير مشروع قانون يتغافل برنامج قسائم الغذاء في الوقت الذي يعتمد فيه عددا قياسيا من الأميركيين يصل إلى ما يقرب من 48 مليونا على الإعانات.

في الولايات المتحدة اليوم، التي كانت يوما ما قبلة المهاجرين، يمكن توقف عملية الإصلاح الشامل لقوانين الهجرة، كما يمكن للأبواق المناهضة للإصلاح مثل آن كولتر وبات بوكانان أن يحذروا من أن إصلاح نظام الهجرة سيكون فيه نهاية البلاد. في الولايات المتحدة اليوم، يمكن للفقر والتشرد أن يتسربا بسهولة من أسفل الجدار الذين أقمناه في عقولنا.

ووجد تقرير تم نشره في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي من قبل مؤتمر رؤساء البلديات الأميركية الذي شمل 25 بلدة - أن جميع هذه البلدات، باستثناء أربعة فقط، قد شهدت زيادة في طلبات المساعدات الغذائية الطارئة منذ عام 2011، وأن ثلاثة أرباع تلك البلدات قد توقعت زيادة تلك الطلبات عام 2013.

ووجد التقرير أيضا أن 60 في المائة من المدن التي شملتها الدراسة قد شهدت زيادة في التشرد، كما توقعت النسبة المئوية نفسها من المدن زيادة معدل التشرد عام 2013. ومع ذلك، يجب أن ندرك أنه لا يمكن القضاء على الفقر بسهولة باعتباره مرضا يصيب تلك المدينة أو تلك، فقد امتدت تلك المشكلة لتصل إلى الضواحي أيضا، حيث وجد تقرير أصدره معهد بروكينغز خلال الأسبوع الجاري أن «كبرى المدن قد أصبحت خلال العقد الأول من القرن الجديد موطنا للفئة الأكثر فقرا والأسرع نموا في الولايات المتحدة».

وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن القضاء على انعدام الأمن الاقتصادي باعتباره قضية تتعلق بالأقليات فقط، حيث قالت دراسة نشرت الشهر الماضي من قبل وكالة «أسوشييتد برس»: «لا يزال غير البيض يعانون مخاطر كبيرة من عدم الأمان الاقتصادي، تصل إلى 90 في المائة. ولكن مقارنة بمعدل الفقر الرسمي، فإن بعضا من أكبر القفزات في إطار التدبير الجديد تحدث بين البيض، حيث يعاني أكثر من 76 في المائة فترات دائمة من البطالة، والاعتماد على الرعاية الاجتماعية أو العيش بالقرب من خط الفقر».

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف وصلنا إلى ذلك؟ ولماذا لا يعبر الكثير من السياسيين - والناس بشكل عام - عن غضبهم وإظهار التعاطف مع تلك الفئات؟ ويجب أن نعرف أن جزءا من الوضع الحالي لدينا هو مشكلة حزبية في الأساس، حيث أصبح الجمهوريون حزب «إلقاء اللوم على الضحية». ومهما كانت فرصك في الحياة صعبة، فإنها تأتي ضمن وسائل التصحيح، حسب منطقهم، فلا يمكن أن يؤثر الفقر والجوع والتشرد واليأس على الروح المعنوية، ولكنها تحفز الإرادة والعزيمة. وإذا كنت تريد المزيد وأنت تعمل بجد، فسوف تختفي جميع المشكلات الخاصة بك، أنت من تحدد مصيرك، فإما أن تغرق، وإما أن تسبح وتتغلب على العوائق التي تواجهك. وبطبيعة الحال، فإن عقيدة المحافظين الضيقة تنفي واقعا أوسع يتلخص في أن هناك عاملين يعانون الفقر وأن هناك عاطلين عن العمل بشكل دائم - الناس الذين يريدون أن يعملوا، ويعملون بالفعل ويحبون العمل، ولكنهم مع كل ذلك ما زالوا عالقين في أدنى درجات السلم الاقتصادي.

وفي هذا الصدد، تخلى الجمهوريون عن فكرة المحافظة الرحيمة، ويسيرون بكل تهور خلف المحافظة القاسية. وثمة مشكلة أخرى قد تكون على نطاق أوسع، وهي نظرة الكثير من الأميركيين للفقراء على أنهم شيء مثير للاشمئزاز.

ويوم الجمعة الماضي، قالت سوزان فيسك، وهي أستاذ بجامعة برنستون تقوم بتدريس مواقف الناس تجاه الفقراء منذ أكثر من عقد من الزمن: «الصور النمطية للفقراء في الولايات المتحدة من بين التحيزات الأكثر سلبية لدينا. وينظر الناس في الأساس إلى المشردين على أنهم بلا مؤهلات، بلا كفاءة ولا نوايا طيبة، وغير جديرين بالثقة».

وأظهر البحث الذي قامت به فيسك أن الناس تنظر إلى الفقراء والمشردين نظرة اشمئزاز، كما يتخذون موقفا سلبيا ممن يعتبرونهم مهاجرين غير شرعيين، أي أشخاصا من دون عنوان.

وإذا كان البعض يشيح بوجهه بدلا من مد يد العون، فلا عجب في أن نرسل كثيرا من المشرعين بلا عاطفة إلى الكونغرس، ولا عجب ألا يطالب كثير من الناس الكونغرس بالوقوف إلى جانب الفقراء. وكما قالت فيسك: «يبدو أن واشنطن قد أصبحت مكانا بلا شفقة في الوقت الحالي.. مدينة بلا شفقة».

* خدمة «نيويورك تايمز»