فلسطين والجهاد المدني

TT

بالرغم من ارتباط النضال الفلسطيني بالعنف، على الأقل حتى الثمانينات عندما أعلن ياسر عرفات نبذ الإرهاب، فقد كان هناك دائما جانب سلمي بنّاء يقوم على أسس الجهاد المدني. بدأ ذلك في 1890 عندما انتبه الفلسطينيون للخطر الصهيوني فنظموا عريضة بخمسمائة توقيع الى السلطان يحتجون فيها على ممالأة الوالي للصهاينة ويطالبون بإصدار فرمان يحرم نشاطهم. انتبه القوم فورا للخطر ففطنوا لأهمية تعليم الجمهور وتوعيتهم. فتحوا المدارس والكليات وأصدروا شتى المطبوعات. وهكذا بدأوا بالحرص على التعليم، الخط الذي استمر حتى أعطى الفلسطينيين الآن أعلى نسبة من حملة الشهادات العالية وأقل نسبة من الأمية بين كل الأقطار العربية. بلغ هذا الحرص أن ثوار 1936 كانوا يخرجون من معاقلهم ويتسللون للمدينة لمجرد دفع حصتهم من تكلفة المدارس.

بعد تصريح الحاكم البريطاني بعزمه على تنفيذ وعد بلفور، رد الجمهور في 1920 بمظاهرات صاخبة في سائر المدن للمطالبة بحق تقرير المصير. تركت حملة غاندي في الهند بصماتها على رواد الحركة فاقتبسوا الكثير منها كاستعمال الرموز الجهادية برفع الأعلام السوداء والإشارات الحدادية واستعمال أساليب المقاطعة والإضراب وغلق الدكاكين وعدم التعاون مع السلطات. وعندما زار بلفور القدس عام 1925 قابلوه بالصمت وعدم السلام عليه فسار في شوارع خالية. تأسست الاحزاب والجمعيات الوطنية التي سهرت على مقاطعة البضائع الصهيونية وعدم انتقال الأملاك اليهم.

كان من مآثر الحركة التلاحم التام بين المسيحيين والمسلمين فكان الجمهور يستمع للخطب الوطنية من منابر المساجد والكنائس، وعندما خرج المصلون من المسجد الأقصى ساروا بمظاهراتهم الى كنيسة اللاتين لينظم اليها إخوانهم النصارى لتواصل المظاهرات التي تجاوزت الألوف وراء الأئمة والأساقفة والرهبان. هكذا وضع الفلسطينيون منذ أول مسيرتهم السياسية أسس التفاهم والتضامن الإسلامي المسيحي الذي بقي راسخا حتى اليوم، خلافا لما جرى في دول عربية أخرى. وتشير النصوص الى تفهم حكيم للمشكلة، فقد ميزوا بين اليهود والصهاينة في أدبياتهم منذ البداية.

تبنى جمال الحسيني في المؤتمر العربي الفلسطيني السادس (1923) فكرة الامتناع عن دفع الضرائب، «لا ضرائب من دون تمثيل» (اساس الديمقراطية الغربية). بيد أن الأعضاء تخوفوا منها، فلم ينفذ القرار. وبقي حزب الاستقلال يتردد بشأنها خوفا من تفجر الأوضاع وقيام ثورة. اكتفوا بالتصويت على مقاطعة حفلات الحكومة ومآدبها.

بتفاقم الأحوال، تألفت جماعات من الشباب عام 1931 تنادي بالعصيان المدني وعدم دفع الضرائب. تبنت بعضها لأول مرة أسلوب الجهاد المسلح، وهو طبعا مما أدى في 1936 الى اندلاع الثورة الفلسطينية ودخول السلاح في الساحة وصولا الى عمليات والعنف.

بدأت في العشرينات تقاليد اللائات الشهيرة . «لا» لكل شيء. فكلما عرض الانجليز مشروعا لمجلس مشترك (1922 ثم 1923، و1937) قابلته القيادة الفلسطينية بالرفض. أصدروا فتاوى بتحريم دخول المساجد او الدفن في المقابر الاسلامية على اي شخص يشارك في هذه المجالس. وأعتقد أن هذه السلبية ساهمت في الأخير بضياع فلسطين.