هلع الأدباء من الطيارة

TT

هذه ظاهرة شاعت بين الأدباء والمتأدبين والفنانين في الخوف من ركوب الطائرة، على الأقل في أيامها الأولى. ففي هذه الأيام أصبح السفر جوا جزءا من حياتنا وغدت الطائرة أيسر من الحافلة أو القطار. عرفت الكثير من الزملاء ممن رفضوا الذهاب إلى أي مكان والمشاركة في أي نشاط، لا لسبب سوى خوفهم من ركوب الطائرة.

كان من هؤلاء الدكتور العلامة مصطفى جواد، صاحب العمود الشهير «قل ولا تقُل». طالما دعوه للمشاركة والحضور في شتى الندوات الفكرية المتعلقة باللغة العربية، موضوعه الخاص. ودأب على الاعتذار كلما تضمنت السفر جوا إليها. الظاهر أن الإغراق في النحو العربي وعلوم اللغة يغرس في النفس الخوف من أي ابتداع أو اختراع. ولكن باكستان أقامت مؤتمرا دوليا موسعا يتعلق بهذا الموضوع، وبالطبع دعوا مصطفى جواد للمشاركة فيه. حاول التملص من الدعوة بسبب ركوب الطائرة، ولكن وزارة المعارف العراقية بذلت ضغطا كبيرا عليه بالنظر إلى مكانته وحرصا على العلاقات مع تلك الدولة. اضطر في الأخير إلى أن يلبي الدعوة ويركب الطائرة بصحبة طبيب يسهر على هدوء أعصابه ودقات قلبه وسلامة معدته ومصارينه.

ركب الطائرة وحط في كراتشي سالما غانما وقد وقع في الحب والغرام، لا بإحدى المضيفات وإنما بحب الطائرة نفسها. عاد إلى بغداد وقد أصبح متيما بها. كلما سنحت له الفرصة، ذهب إلى ديوان الوزارة يستفسر، بل ويتوسل: «ماكو مؤتمر، ندوة أروح لها بالطيارة؟».

وقع في هذا الرعب من الطائرة أيضا الظريف المصري الشهير عبد العزيز البشري. تقرر أن يدعى للسفر جوا، لا من بغداد إلى كراتشي، وإنما من القاهرة إلى الإسكندرية. استولى عليه الهلع وتعذر عليه النوم فقام وكتب بهذا الأسلوب الذي يذكرنا بشيخ الفكاهة العربية، أبي عثمان الجاحظ. قال، متحديا كل عباقرة العلم الحديث: «صدقني يا سيدي إذا أكدت لك أن العلم كله يضيق بشأني، وأن ماركوني، والمرحوم إديسون، والعالم آينشتاين، وأضرابهم من فحول العلماء والمستكشفين، لأعجز جميعا من أن يهتدوا إلى تطيير هذا الكاتب! ألا فليبذلوا الجهد في ما هو أجدى، كإحالة الحصى ذهبا، والهواء حطبا، وإطالة العمر إن استطاعوا ومدافعة الموت إن أطاقوا، الاصطلاء بالثلج، والابتراد بالنار، والمشي على اديم الطيف واستخراج القر من وقدة الصيف..».

ويتأمل البشري في هلعه من ركوب الطائرة فيتخيل كيف ستسقط وماذا سيفعل إن سقطت. قرر عند ذلك التدرب على السقوط بإسقاط نفسه من السرير إلى الأرض 1500 مرة، على اعتبار أن الطائرة ستكون على ارتفاع 1500 مرة بقدر ارتفاع سريره عن الأرض. ولكنه يتذكر أن شركة الطيران لا تقبل التقسيط، والسقوط عندها يكون دفعة واحدة. ويمضي الشيخ في وصف هواجسه وركوبه الطائرة ووصوله سالما. يقول له صاحبه: انظر إلى السماء، وإذا بالطائرة نفسها تحلق عائدة إلى القاهرة فيقول: «لحى الله أنفس الجبناء!».