عودة التعليم «غير الصفي»!

TT

خبر بسيط ولكنه لافت تناقلته بعض المواقع الإخبارية مؤخرا في السعودية، مفاده أن جمعية حكومية سعودية (وهي جمعية الثقافة والفنون بمنطقة الأحساء شرق البلاد) اختتمت الدورة الموسيقية الأولى (الصولفيج)، وهي الدورة التي قام بالإعداد لها وتنظيمها قسم الموسيقى في الجمعية، وذلك بعد توقف طويل جدا عن تقديم كل أشكال الدورات الموسيقية لمدة تتجاوز العشرين عاما.

وطبعا كان هذا الغياب القسري نتاج حال الترهيب الذي طال كافة الأنشطة غير الصّفية، مثل الموسيقى والكشافة والمسرح والفنون التشكيلية، واعتبارها كلها من اللهو المحرم، حتى نجح غلاة التشدد عبر التهديد والوعيد في أن يمنعوا كل ذلك من المدارس والجمعيات العامة بشتى أشكالها وأنواعها، وجفت قنوات التلفزيون والمدارس والجمعيات والإذاعة من كل شيء له علاقة بالجانب الحسي والسمعي والبصري، و«فجأة» أسدلت ستارة الحرام على كل تلك الأمور، علما أنه من قبل كان كل ذلك متاحا ومسموحا وحلالا.

أنا شخصيا أنتمي إلى جيل كان يتمتع بنصيب وفير من المواد غير الصفية، فلقد كنت عضوا في فريق الكشافة، وكنا نتطوع للخدمة العامة في المناسبات المختلفة، وكذلك كنت حارس المرمى لمنتخب المدرسة، وكنا نلعب مع مدارس أخرى فتحصل فرص التعارف وتكسر الحواجز والعقد الاجتماعية الكثيرة.

وكان زملائي منخرطين في أنشطة أخرى، أذكر منهم بكل افتخار خالد عيدروس الذي كان يعزف على آلة الكمان بشكل إعجازي باهر ويقدم العروض أمام كبار زوار المدرسة فيعزف لهم مقاطع من مؤلفات موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، مثل «الجندول» و«النهر الخالد». والزميل أحمد النوري الذي كان عازفا بارعا لآلة البيانو بشكل أخاذ، وكذلك الزميل خالد عبد الغفار الذي كان يعزف على آلة العود ويدندن أهم معزوفات طلال مداح وعبادي الجوهر بشكل سابق لسنه.. كلها كانت مواهب خارقة، وغيرهم ممن برع في الرسم وفي النحت وفي المسرح، وكلهم كانوا موحدين لربهم مصلين ويؤدون الطاعات والفروض بلا ريب ولا شك .

والآن مع عودة السوية الطبيعية مجددا لمناخ المدارس والتعليم بالسعودية واستقبال المزيد من النشاط غير الصفي أجد التهم التي ترسل، كرد على ذلك بالتغريب والخروج من القيم، أجدها هراء وهزلا لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد؛ لأن الدين والقيم موجودان من قبل ومن بعد، ولا شك أن كل القائمين على التعليم كان لديهم من الحكمة والعلم الشرعي والحصافة والدراية لمعرفة ما هو الصالح العام وما هو مطابق للشرع الحنيف وما الذي يراعي العرف السليم.

كنت في مدرسة بها عمالقة من رجال العلم والأدب، تربويون من طراز نادر وفريد، رجال - مثل عبد الرحمن التونسي وفؤاد أبو الخير - يخافون الله ويراعون شرعه ويحرصون على مصلحة الطلبة والمجتمع، وكان معهم نخبة من خيرة الكفاءات من المعلمين، أذكر منهم الأستاذ أحمد رمزي الخبير بالكونسرفتوار المصري الذي كان يعلم الطلبة أصول الموسيقى ومهارات العزف ليرتقي بالحس والذوق بشكل واضح.

هذا النوع من الأخبار «المفرحة» خطوة تصحيحية في مشوار طويل تسعى وتسير السعودية فيه لإصلاح الخلل والأذى الذي أصاب القطاع التعليمي وجعله يتراجع في سباق المعرفة العالمي عن دول كانت متخلفة عنه وبمراحل كبيرة.

الخلل الذي حصل كان كبيرا وعلى مدى فترة غير بسيطة من الزمان دفعت ثمنها البلاد وأجيال متلاحقة من الشباب حرموا حتى من فرصة الابتعاث للخارج بحجة عدم التعرض لموجات «التغريب»، وهو «الذي يهدد الهوية» ويعرض الجميع «للخطر الداهم» وغير ذلك من فزاعات الرعب والتخويف التي بنيت على تشكيل كوابيس داخل المجتمع من كل ما هو جديد ومفيد، وكل هذه الأوهام الباطلة ثبت مع الأيام سوء تقديرها وسوء مراعاتها لفقه المقاصد والمصالح، ولكن السعودية تتحرر بالتدريج من هذا الكابوس، وكل الأمل أن يستمر ذلك لما فيه الصالح العام الذي طال انتظاره.