موت الديمقراطية

TT

نستطيع ان نقول الى حد ما بأن العالم العربي بأنظمته السياسية المختلفة وتمايز توجهاته الايديولوجية قد اجتاز معظم محنه الكبرى وأزماته الكأداء بشيء من النجاح ويشهد على ذلك استقراره السياسي والاجتماعي ومحافظته على وحدته الوطنية في حدوده القطرية واحتواؤه لطوائفه وأقلياته العرقية وتأكيده على العدالة الاجتماعية بازالة الفوارق الطبقية بين شعوبه وشيوع التعليم المجان والارتقاء بالمستوى الصحي بين ابنائه وتبنيه الخطط المرحلية في التنمية الشاملة ومحاولته القضاء المبرم على ظواهر العنف المختلفة كأسلوب مرفوض للتغيير، وقبل هذا وذاك التحرر القومي والاستقلال الوطني والقائمة تطول.

انها بالفعل وقفة تذكير ووفاء لمكاسب تاريخية انجزتها مرحلة هامة جداً من حياتنا السياسية الماضية، والتي طغى فيها البعد القومي والاشتراكي على البعد الديمقراطي، والحريات الفردية متروكة للتاريخ يفصل فيها ويحكم عليها بعيداً عن المبالغات التي صاحبت تحقيقها وليس هذا مجالاً لاحضارها، او استنطاقها بعيداً عن شروط ظروفها وزمانها بقدر ما هو مجال يسمح بأن يكون مدخلاً لاعادة قراءة الوضع السياسي العربي ضمن الاوضاع الاخرى المتفاعلة في عالمنا اليوم، ومن واقع لا مفر من الوقوف عنده ومجابهته وجهاً لوجه دون تشنج او مبالغة او تسفيه لسلطة او نظام بعينه مع وعد بالحياد ما امكنني ذلك، بل سيكون تناولنا لخطاب سياسي عام قد يقترب فعله من نظام بعينه ويبتعد عن الآخر، فالأمور نسبية كما تعلمون، وبهذا نكون في حل من اللوم او العتاب والعقاب.

تساؤل ورصد واستدرك ايضاً لأقول ان قراءتنا ليست قراءة للوضع بالمعنى المنهجي والعلمي للقراءة النقدية بقدر ما هو تساؤل ورصد لهموم وظواهر سياسية وممارسات سلبية باتت تطغى على خطابنا السياسي العربي في الآونة الاخيرة، وما صاحبها من وعود بالتغيير والاصلاح قادمة وبشكل غير معهود في عالمنا العربي، حتى كاد المواطن العربي يصدق هذه المرة بأن هناك توقفاً ومراجعة حقيقية للتجارب السابقة ولكن سرعان ما خابت الآمال وتبددت الأحلام عندما اخذ اعلام ذلك الخطاب المهيمن بقطع الطريق على كل الحالمين والمغفلين حينما اعلن بكل وضوح وصراحة موقفه من (الحقوق والحريات).

وراح يؤكد للقاصي والداني والصحيح والعليل والأخرس والأبكم انها مفاهيم وقيم لا تراعي الخصوصية العربية المصونة وذات الشرف الرفيع والماضي المجيد وانها مبادئ ومفاهيم افرزتها فلسفات غربية لا نستسيغها ولا تناسبنا ولا تصلح لنا بهذه الصورة من الاستخفاف بالعقول والنمطية المتخلفة يمارس الخطاب السياسي تشنيعه بمبادئ انسانية وأنظمة ديمقراطية اثبتت القرون الطوال صلاحها وتفوقها ونفعها بما تحمله من عدل ومساواة بين الناس على اختلاف مشاربهم وأجناسهم، بل وبقائها واستمرارها مزدهرة وصانعة لحضارة عتيدة لم تعرف الانسانية له مثيلاً حتى يومنا هذا.

واللافت للنظر ان من يكرس لهذه الظواهر والممارسات ويتحمس لها هم عناصر صغيرة ومراحل عمرية شابة وقمم هرمية يعول عليها التغيير والاصلاح الحقيقي لا الشكلي. ولا مبرر لسلوكها المدمر وهي التي اطلعت اكثر من غيرها ولمست عن قرب نهضة وتقدم تلك البيئات بحكم الاقامة هناك او الوجود للدراسة او الاطلاع والقراءة الواعية لتلك الثقافة مما جعلها تتشرب ثقافة عصرية تختلف كل الاختلاف عن ثقافة الآباء واستوعبت تلك التجربة الانسانية بحلوها ومرها مما حدا ببعضهم عدم اخفاء اعجابهم بها وتمنوا تطبيقها واستجلابها لبلادهم يوماً، وتفعل الظروف فعلها سريعاً وتتحقق الأماني، ولكن بقدرة قادر تنقلب المفاهيم وتتكدر الأمزجة حالما آلت اليهم الأمور واعتلوا هرم السلطة فسرعان ما شكلهم ذلك الخطاب بمفاهيمه الارتكاسية، وديماغوجيته المعتادة وهذا النهج المعكوس في رؤية الأشياء هو النمط السائد في خطابنا السياسي اليوم، خطاب تعمل على تشكيله قوى خفية مؤدلجة الى العظم غارقة بأوهام ومعتقدات تبدلت او انقرضت، لم يعد خطاباً يمثل الحقيقة كما كان يتصور ولم يعد ينظر اليه بمصداقية بل انهارت منطقيته وبقاؤه ايضاً بعد انهيار وزوال مرجعيته ومنظومته من العالم وهو يبحث جاهداً عن كيفية للتشكل من جديد او صيغة ملفقة تبحث عن مرجعية هنا او هناك يتمترس خلفها.

ويكفيك رفضاً وزهداً بهذا الخطاب وبالكيفية المسطحة التي يتناول بها نقد الخطاب المضاد دون تنظير مقارن او قراءة واعية توحي لجماهيره على الأقل ان هناك قناعة مرتكزة على دراسة علمية ونتائج محصلة وعلى اساسها تم رفض الآخر، بل ارتجال وتشنيع غير مبرر، فلو اخذنا على سبيل المثال تناوله لأنظمة الغرب ومرتكزاته الديمقراطية، واخذنا الديمقراطية كمفهوم سياسي وصيغة مجردة وحكمة ضالة سعت شعوب الكون كله الى استجلابها وتطبيقها، نجد ان هذا الخطاب في جهد جهيد مع شعوبه لصرف انظارهم عنها والنيل منها بنعتها بالغربية للتقليل من شأنها والحط من قدرها، وهل هذا مبرر معقول وكافٍ لرفضها وعدم التسامح معها؟ وهل ترانا مشغولين معه بجني ثمار ديمقراطية الشرقية يا ترى؟ وهل الديمقراطية الغربية شيء اكثر من العدل والمساواة والرقابة الشعبية على السلطة والانتخابات النزيهة والسلام ونبذ العنف، وكلها كما ترون مبادئ وقيم انسانية مشتركة ليست غريبة عنا ينشدها الانسان مهما كان معتقده او جنسه او موقعه.

مفارقات ناسخة للذاكرة ومن المفارقات العجيبة الماسخة للعقول والناسخة للذاكرة نسي ذلك الخطاب ان جميع انظمته السياسية والاقتصادية هي في الاصل منجز غربي قح الهوية والمنشأ افرزتها فلسفات عصر الأنوار الأوروبي ايضا، فهل هناك تفسير لهذه الانتقائية الحادة والفاضحة؟ ام انها تقادم السنين وطول الألفة، جعلته يتوهم بأن ماركس وانجل ولينين من بقية العشيرة العربية والتي لا يجوز التفريط بتراثها او قد يكون التزاماً قطعه على نفسه وللرفاق بأن يكون (ماركسياً اكثر من ماركس).

حقاً اننا نكابر ونتنكب الطريق الصحيح على حساب شعوبنا والا لماذا الاصرار والبحث عن خط سير مغاير لخط العالم بحجة اننا غيرهم، ومن حقنا التفوق والمسير بعيداً عنهم؟

هل حاولنا فهم سر عدم توافقنا مع العالم في معالجة الكثير من شؤوننا ورفضنا واقصائنا للآخر، وأسباب هذه النزعة النمطية والتي استبدت بخطابنا السياسي العربي وهي تمارس القراءة المغايرة للواقع نظير الآخر وظاهرة هذه النزعة الاسطفائية التي تجتاح عالمنا العربي، وهذا الشعور المتغطرس بأنه غريب عن بقية خلق الله مما اشقاه وجعله غير راض عن نفسه وعن الآخرين ان لم نقل (يتعالى مع ذاته) ويمجدها والعياذ بالله، فهل وقفنا على الأسباب التي من اجلها سخطنا على العالم واحتقرناه وزهدنا بمنجزاته ومكتسباته الرائعة وتغاضينا عنها وشنعنا بها؟

ومن الظواهر التي يحتفي بها خطابنا السياسي والاكثر اثارة للملل ظاهرة التكرار والتمجيد لخطابه ورموزه لا لكي يجعلنا نعرف ما لم نكن نعرفه من قبل بل ليبرر لنا ما نعرفه وهو الواقع الراهن واعطاؤه صبغة الديمومة، وانه شيء نابع منا وعلينا المحافظة عليه وعدم التفكير بالخلاص منه او تغييره.

بالله عليكم من اين نجد للناس المزيد من الصبر والراحة او التفاعل مع هكذا خطاب وهم قد اصبحوا الآن يعرفون الى اي شيء يهدفون ولماذا يضحون؟

الحقيقة لا نستطيع ان نأتي على كل الظواهر السلبية وما اكثرها والا احتجنا صفحات جريدتكم كلها ولكن لو اكتفينا بما ذكر من تلك الظواهر لضيق الوقت والمقام وسكتنا عن البقية، ما كان يجب علينا السكوت عن ممارسات تدخل ضمن تلك الظواهر والتي لا بد من ذكرها والاتيان عليها وأنتم عايشتموها وبشكل مباشر قد تقنع المكابر منا او من عساه يتهمنا بالتحامل على ذلك الخطاب وهي عندما يسوقك حظك العاثر الى منابر خطب رموز ذلك الخطاب او حينما يباشرون الجماهير وتستولي عليهم العاطفة يصبحون في الحال ضحية لانفعالاتهم، فيطلقون من العبارات والأفكار الغامضة ويتعمدون الخلط الفاضح لمفاهيم اصبحت بين الناس في حكم البديهيات والتي لا تحتمل الحجب او التزييف او الطمس، ولكنه زمن العجائب زمن تحقيق الممكنات المستحيلة ضد رغبات الشعوب، ومن خلال مؤسساته التي تمثل كل شيء الا ارادته المسلوبة. عندها ستتمتم وتلوم الزمن الرديء الذي قلبت فيه الحقائق ونكست فيه المفاهيم واختلطت فيه جمع الألوان وصاحت على جنباته لون واحد فقط هو اللون الرمادي سيد الألوان وسلطان الانتهازية.

والحالة هذه كان لا بد ان يستيقظ وعي السامع في خضم هذا الضجيج والخلط المربك ويسأل: هل هذا الخطاب موجه الى النخبة وصفوة المثقفين؟ وهي التي تدرك الفروق بين المصطلحات ام انه موجه الى القطاع الاكبر من السذج من الناس؟

الاجابة سيان ومتى كان هناك فرق او فرز بين الناس في حضرة هذا الخطاب ولكن ما حيلتنا بخطاب لا يتحدث الا لنفسه ولا يسمع الا ما يريد، غاب الحوار والخلاف في الرأي فلا مجال للقول بعده او الاستدراك عليه. موقف اسس سياجاً دوغماتياً مغلقاً.

ومع ذلك كله لم تصف الساحة له تماماً بل هناك من دخل معه في صراع ومنافسة هو صراع على السيطرة والنفوذ ومن اجل انتزاع المرجعية منه ولكن هذا المنافس لا يتمتع بالاتصال المباشر بالجماهير وبشكل حر ومساوٍ له، بل بطرق واخرى، وهو في سجال مرير معه ومهدد ومنافس حقيقي له ما زال يتحين الفرص للوثوب على السلطة وكاد في جولة من الجولات لولا اخطاؤه المميتة وخبرته القليلة وغياب تام لمشاريع بديلة او اجابات واقعية وعملية لمشاكل العصر الملحة والمعقدة او برنامج سياسي واجتماعي واضح وشامل يحقق مطامح اتباعه ويرتكز على مرجعيته التراثية والدينية التي ينادي بها.

والحقيقة ان هذا الخطاب الاسلامي المسيس او ما يطلق عليه (بالأصولية الاسلامية) يتفق مع خطاب السلطة برفضه المعلن للآخر ولكن يفوقه مصداقية ووجاهة في التبرير فهو اكثر من خطاب السلطة صدقاً مع نفسه ومع اتباعه حينما اعلن بكل صراحة رفضه للديمقراطية اذ قاموا جادين بتأصيل منهجهم بافتراضات منها ان الاغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله ـ سبحانه ـ وتفتح ابواباً واسعة للرأي والاجتهاد، وفي هذا المناخ الحر من يضمن عدم الخروج على صحيح الدين ولديه نظرة اختزالية يختزل الحاضر والمستقبل الى الماضي وسيرة السلف الصالح اذ ينطلق من مرجعية طوباوية يرى انها الأصح بالاتباع وهو اكثر انتهازية ومخاتلة من اي خطاب آخر اذ يقر ويتمسك بالديمقراطية كوسيلة للوصول الى السلطة والحكم ولا يقرها او يؤمن بها كنظام سياسي قابل للتطبيق بعدالوصول الى السلطة.

خطاب الحاضر الغائب وآخر الخطابات والذي نسميه تجاوزاً خطاباً وهو الحاضر الغائب او خطاب النخبة او الصفوة من المثقفين العرب وهذه النخبة تبقى اسيرة اطارها المرجعي الاوروبي والتي لا تخفي اعجابها بالغرب ومنجزاته وتنادي دون تحفظ بتبعية كاملة فلها نظرة مستقبلية تقفز فوق الواقع والتاريخ والقفز الى الامام بلا رؤية او تعليل للحظة ودون عودة الى التراث او مرجعية تاريخية بل مسح كامل للطاولة وتبعية وارتباط في الغالب وبكل سهولة استطاعت الخطابات الاخرى المنافسة تحييده والتشكيك في نواياه فهم العلمانيون المنسلخون من مبادئهم وقيمهم في نظر السواد الأعظم من الناس. والحق يقال ان المسؤولية كلها تقع على هذا الخطاب في غياب تلك المبادئ والمفاهيم الناضجة والعقلانية عن ساحتنا العربية او تأخر وصولها الينا والسبب في الغالب اما ايثار للسلامة او دعة وتمتع فكري بعيداً عن المشاكل العامة وتحاشياً للصدام مع السلطة، لم يعوا ان مهمتهم جهادية بالدرجة الاولى مهما لاقوا من جراء ذلك من عنف واكراهات، ونشاطهم يتمثل بتقديم الدراسات والبحوث العلمية والقاء المحاضرات الأكاديمية وتأليف الكتب ونشر المقالات ذات الطابع المنهجي العلمي الذي يصعب على القارئ العادي استيعابها وهو الهدف في المقام الاول، فما بالك بالتأثير عليه والايمان بها والدفاع عنها، وفي النهاية يبقى المواطن العربي ضحية تلك التيارات ومزايدة تلك الخطابات في مناخ اقل ما يقال عنه هو يوم الحشر او اقرب اليه.

مناخ تضيق فيه الأنفاس في الصدور والافكار في العقول مع مسألة لا تخلو من تلاعب آيديولوجي بحت ومناورات براغماتية بعيدة عن مصالح الشعوب العربية وعدم مبالاة ومراعاة لظروف لحظة قد لا تنتظر، وتبقى الأزمة دون ان تعالج او دون ان يفسح المجال للحوار الذي قد يساعد على ايجاد حل او منفذ لهذه الاشكالية، فالموقف العربي من التحول او التغير قد بلغ الآن مرحلة الازمة والتي يدل فيها كل شيء دلالة واضحة على ان مواصلة السير بنفس المعطيات والرؤى التي كانت سائدة من قبل لم تعد ممكنة وان الأزمة القائمة هي من تلك الأزمات التي تتقلص فيها الاختيارات، فلنبادر ونقطع الصلة مع تلك التجارب الفاشلة قبل فوات الأوان ونعتبر الصيغة الغربية معطى انسانياً ونتعامل معه وفق هذا المنظور مع المحافظة على مسلماتنا «قطعية الثبوت» ولا نبحث عن خط سير مغاير لخطهم بحجة اننا غيرهم، ومن حقنا التفوق بعيداً عنهم.

وختاماً اقول ان مثل هذه الكتابات في هكذا مواضيع مهمة وحساسة وبصراحة قاسية ومؤلمة للقليلين منا، هي من المحاولات التي تمكننا من تجاوز المشكلة او التحريض على دراستها ومواجهتها او تعميق الرؤية لها بين شعوبنا العربية وهذا بحد ذاته هدف نحرص عليه.

* كاتب سعودي