لا اعتقد ان هناك زعيما عربيا آمن بالوحدة العربية كمشروع حتمي التطبيق، أو «ضرورة تاريخية» كالأخ معمر القذافي، ولا اتصور ان أحدا سيصادر على العقيد تاريخه النضالي أو ينكره عليه، ولكن الذي اعتقده وأتصوره انه مهما اعترفنا واحتفظنا له بهذا التاريخ المجيد فلن يستطيع أحد منكم ان ينكر علينا انه اليوم نادم أشد الندم على ما أهدره من وقت وجهد في سبيل تحقيق هذا المشروع المتعالي، والذي لا يمت للواقع أو الحقيقة بصلة. صحيح ان هذه الارهاصات من تذمر وتصريحات انسحابية وغير مألوفة صدرت من ليبيا والليبيين هي بمثابة تخل ضمني عن هذا المشروع والنهج الوحدوي، ولكنها لا ترقى الى مستوى الاعتراف الصريح بأن هناك خطأ ما اسوة بالاعترافات التاريخية التي يمارسها الغرب بكل ثقة وشفافية مع شعوبه ازاء هذه اللحظات الحاسمة. والحقيقة اننا نقدر حجم الورطة والمأزق التاريخي الذي يمر به الرئيس معمر القذافي، فهو الذي ارتهن كل ليبيا وثرواتها النفطية الطائلة ونضالها الوطني ولعقود طويلة من اجل تحقيق هذا الهدف العروبي والرهان عليه. وبعد كل هذه المحاذير القاتلة هل حقا ما زلتم تنتظرون منه ان يصارحكم وانه كان طيلة تلك السنين يناضل ويحارب في المعركة الخطأ، وان كل ذلك النضال الباهظ هو «مجرد محاولة فاشلة». البعض منكم لا يتصور ان القذافي سيتخلى عن مشروعه الوحدوي وذلك لولعه وتمسكه الشديدين به، والذي من اجله كاد ان يعرض شخصه ووطنه الى كوارث ومهالك ماحقة، اقول: وليكن كل هذا... وماذا بعد هذا؟ فكل هذا النضال والبذل المجاني لم يبعث في العرب او في الوجدان العربي اي معنى او دلالة يمكن ان يحملها الفرد العربي كرأسمال رمزي مثلا يعمل من اجله وينافح دونه، او حتى كشعور جمعي يعتز به ويفتخر. وللأمانة وحتى لا نتهم بالتحامل والتجني نقول ان الذي بقي في الذاكرة وانغرس في الذهنية العربية هو تلك الآيديولوجية الرومانسية الحالمة والتي لا يشير ترديدها بالشارع العربي الى شيء ذي معنى، وخلاصتها «اننا اصحاب هوية خالصة ذات رسالة خالدة». حتى هذا الشعار غير البريء والمؤدلج ايضا قد استهلك وانحسر صداه على طبقة انقرضت او تكاد. القذافي عندما كان يسعى بعزم وتصميم الى تحقيق وحدته الاندماجية الكاملة والشاملة لم يلق بالا الى الصيغة السوسيولوجية على ارض الواقع وفي كل الأقطار العربية ـ او كما اجترحها الأستاذ عبد الرحمن الراشد (الناطقة بالعربية)، وهذه العبارة التي لم تأت عفو الخاطر اكثر دقة وتمشيا مع توجه وفكرة المقالة. وحتى لا نتناقض مع انفسنا ـ فهي فوارق تنسف مشروعه الوحدوي من اساسه، فلو افترضنا ان القذافي او اي قومي عربي يعي هذه الفوارق ويدركها ولكن يعتقد انه بالامكان تجاوزها، فعلى اي صورة او نظام سياسي سيجسد هذه الوحدة الملفقة او هذا المشروع القسري؟ أنا لا اعرف، ولا حتى المؤمنون يعرفون بعد، فهل من الحكمة والموضوعية ان نبقى محكومين بوعي ذلك الخطاب الوحدوي وشعاراته الفارغة، ونرددها ونتعاطاها في عصر اصبح التحدث فيه عن السيادة الكاملة والهوية الخالصة شيئا من الماضي، فلا حدود ولا حواجز، فضاء متسامح يتسع للجميع ولا يقصي أحداً، وأنتم تعلمون ان المبرر الوحيد والمتهافت هو تلك التصورات الاكثر تخلفا وبدائية والتي اصبحت من أضابير الماضي، نصر عليها ونتحدث عنها في كل مناسبة وحفل، وهي الالتفاف حول النقاء العرقي واللغة الواحدة اسوة بالنازية والفاشية والصهيونية، والكل يدرك ان المتغيرات الاستراتيجية التقليدية اليوم في انحسار مطرد والتي تبدو اليوم اكثر واقعية ومراجعة لصالح مرحلة جديدة ومصالح ملحة تحتاجها الشعوب، بعيدا عن الاعتبارات القبلية البائدة. فاليوم لا يمكن ان تكون اللغة شرطا للوحدة او التكتلات الاقليمية او القارية، وإنما هناك شروط اكثر قوة وواقعية وثباتا وهي لغة المنافع والمصالح المشتركة (كالتكتلات الاقتصادية الناجحة) فهي لغة العصر التي يجب ان يتعاطاها العرب بعيدا عن لغة العواطف ووحدة التخلف والفقر. والسؤال الذي يطرح نفسه او من حقكم طرحه منذ البداية هو: ما مناسبة هذا الحديث المؤجل او المنسي؟
المناسبة بالطبع هي هذه التطورات الرائعة على صعيد الساحة العربية وجامعتها العتيدة، فقد تابعنا جميعا تلك التطورات بكل ذهول وحبور، ولكن دعوني اصدقكم القول انني تمنيت هذا ودعوت له في مقال سابق نشر هنا وتحت عنوان كبير وبالحرف الواحد «الوحدة العربية كمشروع قومي ليست ضرورة تاريخية» وعنوان فرعي «الجميع متحفز لرفض هذا المشروع القسري ولكن من يعلق الجرس»، واعتقدت يومها انني تجاوزت الثوابت العربية وبالغت بالنقد من دون تحفظ او حساب، ولم يخطر على بالي قط بأن زعيما عربيا سيأتي ويتجاوز كل هذا ويأتي على الثوابت نفسها ويتخلى عن آخر وأول رمز يؤسس لمرجعية الوحدة العربية وهو يعلم علم اليقين ما تنطوي عليه هذه الخطوة من تبعات وأبعاد. وهنا لي وقفة اعتراض وتحفظ على تلك التطورات الليبية، فلا يعتقد اننا مقتنعون بتلك المبررات والأسباب التي جعلتهم ينسحبون من الجامعة العربية وبهذه الصورة وفي هذا الوقت وكأن هذه الظروف والأزمات وليدة الساعة او طارئة على ساحتنا العربية... لا، لا ليس هذا كل شيء، فالسبب والحقيقة الصادمة بقيا بعيدين عن متناول الرأي العام العربي ألا وهما تلك القناعات الراسخة التي بدأت أخيرا تتزحزح ليس بفعل المتغيرات التي رسخت الواقع ولا تريد تغييره فحسب، بل بالنضوج المرحلي للقائد والمنظر على السواء. فعندما احضرنا القائد المنظر كشاهد على فشل هذا المشروع الذي تعهده وناضل من اجله، فاننا لم نحضر اي حركي متقلب المزاج، وإنما رجلاً مثقفاً وقومياً متعصباً الى العظم آمن بالوحدة مبكرا ونادى بها ونظر وألف وتفلسف حولها، ويكاد يكون الوحيد الذي شرع بتطبيقها اكثر من مرة، ولكن العبرة دائما بالخواتيم، فالرجل تخلى عن مشروعه اللاواقعي ورأى أخيرا أن الواقع منه فقرر الاستسلام له وقبوله كما هو لا كما يريد ويتمنى. ولكن ما بين هذه المكابرة وعذابات الشعوب، وما بين الاعتراف وتزحزح القناعات الراسخة وعلى مراحل طويلة، كم يا ترى دفعنا من ثمن باهظ بحق شعوبنا ونهوض اوطناننا؟ فلندع ذلك للتاريخ، وأنا ليست شامتا بهذه الدرجة عندما أشبه هذه الخطوة بسقوط حائط برلين، ولكن الشماتة والحزن حقا ان ترى من يحاول التمسك بها والدفاع عنها، ونحن نعلم ان الشعوب قبل القيادات انجزت اكثر الاخفاقات التاريخية في مسيرة هذه الوحدة المفروضة، انظر وتأمل ردة فعل الحكومات والشعوب العربية من حولك على هذه الخطوة التاريخية، فظواهر تغليب المصلحة الوطنية على الهم والهاجس القومي بدأت تسمع هنا وهناك من دون تحفظ أو مجاملة وعلى غرار الأردن أولا وعاشرا وتلويح القطريين باللحاق بالليبيين والهروب من الجامعة، فالأمثلة كثيرة والمقام لا يسمح ببسط مظاهر الفرح والتحرر منها. إذاً لماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا ومع شعوبنا وننهي هذه المهزلة برفض هذا المشروع القسري ونعترف بأننا خليط ومزيج أقوام مختلفة، فالشعوب الأوروبية سبقتنا لهذه التجربة والمعاناة ووجدت الحل النهائي في هذا التشكل الحديث لدولها الوطنية اليوم. وعلى أثر هذا الحل العقلاني والواقعي أقلعت أوروبا وقادت العالم الى نهضة عظيمة. فللخروج من هذا المأزق علينا تمجيد الخطوة الليبية والوقوف معها وتشجيع الآخرين على الحذو حذوها وفضح واظهار استغلال السياسي ونظرته اللاواقعية وتفنيد فكرة الكيان القومي وتكريس فكرة الكيان الوطني بكل الوسائل، فهي الأنسب والأكثر ملاءمة لدولنا وشعوبنا.