مؤتمر لإثارة الرعب في هرتسليا

TT

ثمة هوس أميركي في الحديث عن العراق أصبح مدعاة للسخرية، رغم أن مضمون الحديث خطير ومرعب وقد يسفر عن موت المئات أو الآلاف من البشر.

إن مشاهدة الرئيس الأميركي وهو يشتم العراق كلما فتح فاه أمام شاشات التلفزيون، أصبحت منظرا مملا، ومتابعته وهو يتهادى كالطاووس أمام الجمهور في المهرجانات الخطابية، مالئا وجهه بابتسامة عريضة كلما سمع التصفيق، أصبح منظرا مستفزا للمشاهد العربي.

وهذا الهوس بالعراق وتهديده، ليس وقفا على الرئيس الأميركي ورجال إدارته، إن بعض التلفزيونات الأميركية تشارك في العملية بطريقة ممجوجة، أين منها الإعلام العربي الذي ننتقده طويلا لأنه يتحدث بصيغة مباشرة وغير موضوعية، فمن الصباح إلى المساء، ومهما كان نوع الخبر الذي يذاع، هناك عنوان واحد يتم لصقه على الشاشة ويبقى ثابتا أمام المشاهدين: «الحرب ضد العراق»، ثم «الهدف هو العراق»، ثم «استهداف العراق».

وحين ظهر المستشار السعودي عادل الجبير على شاشات التلفزيون الأميركي، متحدثا بالوقائع والأرقام عن جهود السعودية في مقاومة الإرهاب، كانت إحدى المحطات التلفزيونية تواصل حملتها ضد السعودية، فتكتب تحت صورة الجبير وهو يدلي بواقعة محددة: البنات ممنوعات من ركوب الدراجة في السعودية. أو تكتب: النساء يجلسن في مقاعد الباصات الخلفية، وهكذا.

وهذا هو إعلام دولة متقدمة، تبشر بالديمقراطية، وبحرية الرأي والرأي الآخر، وتتهمنا بأننا لم نعتد الحياد والموضوعية في إعلامنا.

إن من ينظر من الخارج إلى الولايات المتحدة، ويمر أمامه شريط أقوال زعمائها، أو شريط صور تلفزيوناتها، يظن أن هذا البلد يمر في لحظة جنون، أو أن مخرجا سينمائيا يستخرج من الحياة اليومية لقطات تثير الضحك والسخرية، ولكن الضحك والسخرية هنا ينذران بخطر مدمر.

هذا المنظر الأميركي نفسه يتكرر في إسرائيل، وفي هرتسليا بالذات، حيث التقت النخبة في مؤتمرها الثالث لتبحث في مستقبل إسرائيل وفي كيفية مجابهتها للتحديات. لقد توالى على المنبر أهم زعماء إسرائيل، وأهم قادتها العسكريين، وأهم الأخصائيين والباحثين فيها، وكانوا كلهم، وواحدا بعد الآخر، يتحدثون عن خطر إبادة إسرائيل، وعن الخطر المجهول الكامن في مكان ما ليرمي إسرائيل بسلاح كيماوي أو بيولوجي أو نووي. وكانوا كلهم، وواحدا بعد الآخر، يهددون بالرد بقسوة، أو الرد بطريقة غير مسبوقة، أو باستخدام السلاح النووي الإسرائيلي. كانوا يتحدثون عن الحروب، حرب محلية مع الفلسطينيين، وحرب إقليمية ستنشب مع الجيران، وحرب أوسع ستنشب مع دول إسلامية، وحرب أخرى تدور في الساحة الدولية، وكان قادة دولة إسرائيل ذات الخمسة ملايين نسمة يتباحثون كيف يستعدون لخوض هذه الحروب كلها.

هل هذه تصورات رجال عقلاء، أم هي تخرصات رجال مجانين؟ الصحافة الإسرائيلية تقول لنا إن أعقل الرجال في إسرائيل هم أصحاب هذه التحليلات، وهم دعاة تلك المواقف.

لقد انعقد مؤتمر هرتسليا يوم 4/12/2002، وهو المؤتمر الثالث من نوعه، وكان عنوانه «الحصانة الداخلية القومية للدولة العبرية في مواجهة التحديات». تحدث في المؤتمر (إفرايم هاليفي) رئيس مجلس الأمن القومي، جيء به من الموساد إلى هذا المنصب لأنه الرجل الأكثر عمقا وعقلانية. لقد وقف هذا الرجل أمام المؤتمر وهو يصيح كالطائر المذعور: «الإرهاب العربي والإسلامي، الفلسطيني والعالمي، يستهدف إبادة إسرائيل ومحوها من الوجود». ثم أخذ يصيح ويتوعد: «إن عملية إرهابية استراتيجية ضد أهداف استراتيجية، ستدفع إسرائيل إلى الرد بقسوة، وستغير قواعد اللعبة وساحاتها». إن هاليفي يطلق هذه التهديدات (والتي فهمت على أنها تهديد باستخدام السلاح النووي)، دون أن يعرف من هو خصمه، ودون أن يعرف ضد من يوجه تهديداته، ودون أن يعرف أي بلد سيكون ميدان المعركة. فبماذا يمكن أن نصف هذه الصرخات، وهل نكون متجنين إذا قلنا أنها صرخات هستيرية؟

إن المجنون هو الذي يتحدث لغة هي غير لغة الآخرين، ولكن إذا كان الخطباء في مؤتمر هرتسليا يتحدثون اللغة نفسها، فسيقولون في هذه الحالة إن المجنون هو الذي يسمع الكلام ويستنكر.

لنستمع إلى وزير الدفاع شاؤول موفاز فلعله يكون أكثر عقلانية، ولكن.... ها هو يصرخ بدوره «إن هجوما بيولوجيا أو كيماويا أو نوويا على إسرائيل، أو عملية إرهابية كبيرة ضدها، ستغير وجه العالم تغييرا جذريا». ماذا تعني كلمة «العالم»، وماذا تعني كلمة «تغييرا جذريا»؟ ولماذا يكون أسامة بن لادن في هذه الحالة مجنونا أكثر من شاؤول موفاز؟ الأول يقتل ثلاثة آلاف إنسان بريء في يوم واحد، والثاني يهدد بقتل ثلاثمائة ألف؟

لنستمع إلى موشي يعلون رئيس الأركان فلعله يكون أكثر عقلانية. إنه يتحدث بهدوء. يقتل الفلسطينيين يوميا ويتحدث بهدوء. ولكنه يبشر الإسرائيليين بأربعة أنواع من الحروب، حرب تبدأ برام الله وغزة ثم تتسع على مدى العالم كله، وهو يعدد ويفند ويسمي ذلك تخطيطا استراتيجيا. يقول «إن الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني يحمل في طياته خطر تدهور إقليمي شامل»، ولكن بدلا من السعي لمعالجة هذا الصراع، وبدلا من العمل لوقف التدهور الإقليمي الشامل، فإنه يتلذذ بسرد أنواع الحروب التي سيقود إسرائيل نحوها، فبعد الحرب على الفلسطينيين هناك خطر اشتعال الحرب مع لبنان (وحزب الله)، وبعد لبنان هناك خطر الحرب مع العراق وإيران، وبعد العراق وإيران هناك «دائرة رابعة بدأت تتسع هي الدائرة الدولية (بعد عملية كينيا). ويعلون يريد أن يخوض هذه الحروب كلها بأربعة ملايين يهودي يقيمون في دولة إسرائيل.

إذا كان يعلون مهووسا بشن الحروب المستحيلة، فهل يحيط به ضباط عقلاء؟ ماذا يقول مثلا الجنرال يديديا يعري قائد سلاح البحرية؟ يقول ما هو أخطر من كلام قائده، «إن سلاح البحرية جاهز لإطالة اليد الإسرائيلية، فسلاح الجو محدود الإمكانيات ولا يستطيع الوصول أبعد من شرق العراق (شرق العراق توجد إيران)، والبحرية تستطيع ذلك ويجب تعزيز قوتها».

هذا هو كلام القائد، وهذا هو كلام جنرالاته. إنهم لا يفكرون إلا في الحروب، وحروبهم تمتد إلى آخر أصقاع الدنيا، وأصقاع الدنيا كلها فارغة وجالسة تنتظر أن يأتي الإسرائيليون ويضربونهم ويقتلونهم في عقر دارهم، ولا أحد يتحرك ولا أحد يرد. العالم فارغ إلا من أهداف تهاجمها البحرية الإسرائيلية، أو تطلق عليها صواريخها النووية. ويصدر هذا الكلام عن مؤسسة مخصصة للتفكير الإستراتيجي.

ولكن.... يقول قائل: هذا كلام عسكريين، أما كلام السياسيين فهو بالضرورة أمر مختلف. حسنا.... ماذا يقول السياسيون في مؤتمر هرتسليا؟

ايفي إيتام، وزير البنى التحتية، ورئيس حزب المفدال، وقف خطيبا ودعا إلى إقامة دولة فلسطينية في شبه جزيرة سيناء المصرية، قال إنها الحل الأمثل لأنها غنية وكبيرة وفارغة من السكان.

ويسرائيل هرئيل، زميله في قيادة الحزب، وقف معقبا وقال: «إيتام تحدث عن سيناء، ولم يتحدث عن الأردن. الأردن هو في الواقع دولة فلسطينية كبيرة، وليس من المعقول أن تدفع إسرائيل وحدها ثمن ماساة الشعب الفلسطيني، لماذا لا يدفع الأردن أيضا؟».

هؤلاء هم قادة إسرائيل، العسكريون منهم والسياسيون، إنهم ينظرون حولهم فيرون العالم كله عدوا لهم، وهم مستعدون لأن يتهموا العالم كله بالخطأ، ولا يفكرون للحظة واحدة بالخطأ الكامن فيهم، أو بالشر الكامن في مشروعهم.

لقد كتب الإسرائيليون كثيرا عن العرب الذين يضعون الأخطاء دائما على كاهل خصومهم ويبرئون أنفسهم من اية مسؤولية. بالله عليكم ماذا يفعل القادة الإسرائيليون في مؤتمر هرتسليا الاستراتيجي غير ذلك؟.