الخصوصية السعودية أولا

TT

كنت اعتقد ان لا شيء اقسى ولا امر من نقد الذات، ولكن الذي اقسى منه وامر هو ان يجبرك الآخرون على ممارسته، وبصوت عال، وفي فضاء ضيق، وبيئة لا تحتمل هذه الثقافة ولا تتعاطاها، ولا ترحب بها وتستشكل ضرورتها الحضارية. لهذا كانت تجربتنا في مواجهة الآخر المفتوح والمتفوق والقاهر من اصعب المحن الوطنية واقساها على الاطلاق، هزت كيان السكون المطلق (للأنا) وحركت الراكد الاجتماعي والموغل في ركوده وانغلاقه على مستوى الشعوب والثقافات، وانتهكت الممنوع والممتنع باختراق كل ابعادهما الاجتماعية، الفكرية والسياسية، وعصفت وبصدامية مفجعة السائد والمألوف وبشكل دراماتيكي مثير وغير مسبوق، معيدة في لحظة تاريخية حاسمة ترتيب الاولويات الوطنية من مصالح ومواقف وتوجهات، وعلى طريقة الانقلابات العربية، حيث اصبح الهامش على قائمة الاولويات الملحة وتراجع المهم الى قاع قائمة الاهتمامات الشعبية والوطنية. ولأول مرة في تاريخ وطننا المعاصر يتحرك المشهد الوطني بكل اطيافه وتوجهاته وتياراته (ليصنع جدله وحواره) وبشيء من الحرية الممنوحة، ناقدا وطارحا لأفكار ورؤى اصلاحية تنشد الحلول والتغيير والتطوير الملح والسريع. تفاعلنا جميعا مع ذلك التحرك وتلك المبادرات، وتابعنا جدلها الوطني الهادئ والبعيد عن العنف والصدامية، عارضها البعض لا لسبب معقول او منطق مبرر، الا لكونها مفروضة بسبب طبيعة الظرف ومعرض الحدث، وهذا الاعتراض قد نتفق او نختلف عليه كونه ينطلق من اعتبارات سيادية يراها البعض من صميم استقلال الوطن وكبريائه، اقول قد نتفق او نختلف عليه حسب طبيعة التدخل المزعوم، ولكن الذي لا يهضم ولا يبرر هو الموقف المؤصل والمؤدلج او المؤسس على مرجعية لا يقرها نقل ولا عقل وهو اننا (شعب مختلف). هنا فقط يجب ان نتوقف، وهنا يجب ان يطول الوقوف لنحرر قضيتنا المتعالية لتصبح متعينة ومحددة المعالم والملامح وشاخصة وعارية لنرى مدى قبحها وبشاعة فلسفتها، فهي بحق مكمن الخلل وعلة العلل لكل توتر وشحن اجتماعي مزمن، وهنا ايضا يجب ان نتوقف ونطرح السؤال بكل تجرد ومصداقية...

اما آن الأوان لمراجعتها واعادة النظر في فلسفتها والخجل والاعتذار والبراءة منها، واعتبار كل هذا واجبا ومطلبا تصحيحيا وطنيا ملحا يجب ألا يتأخر عن بقية مطالبنا واصلاحاتنا الوطنية ان لم يسبقها ويمهد لها؟، فالكل يعلم ويقر ويعترف ان سبب مشكلتنا او قل سبب جمودنا الحضاري وعدائنا (للحداثة) نحن السعوديين هو اننا اختلقنا كذبة تاريخية سوداء بحجم هذا الوطن وشعبه دون وعي منا لابعادها الكارثية وعنادها الحضاري وقهرها الاجتماعي، وأسسنا عليها افكارا وتوجهات خاطئة وهي (أننا شعب مختلف وبخصوصية ثقافية ومكانية) كما تلاحظون عبارة بسيطة ولكنها ملغومة بالأذى ومشحونة بكل ما هو كريه ومرفوض، اجترحناها كمقولة متعالية وقامعة للآخر في وقت الرخاء الباذخ والخدر اللذيذ، ومارسناها بغبطة متناهية وانهمكنا في تكريس هذا الهراء وعلى كافة الاصعدة وفي جميع المجالات وجعلنا منها (هولوكوست وطنيا قاهرا لا يمس ولا يناقش) ومعيارا حادا لفرز خلق الله وتصنيف الشعوب، وبشهوة وحماس عارمين ادلجناها وصرفناها الى عقيدة صارمة لاقصاء الآخر ومحاربته، وما محاولة البعض لي عنق النص الديني لخدمة هذه العنصرية الغبية الا شاهد على مواصلة الانغلاق والغلو ورفض كل ما هو وافد وجديد ومختلف حتى لو كان هذا المختلف منجزا انسانيا محايدا ومفيدا ولا يتعارض مع الثابت من الدين وقيمه. والمثير والمتناقض والصارخ في تناقضه هو تمسكنا بها مع علمنا الاكيد انها غير بريئة ولا نقية شرعا وغارقة بالخطيئة وكفر النعمة، وصادمة للعقيدة السمحة، فلو امعنت النظر في هذه المقولة او هذه الاصطفائية والخيرية المزعومة لوجدتها تتعارض وبشكل سافر مع ابسط تعاليم الدين ونقوله، ومع هذا نصر على تلقينها للأجيال بشكل دؤوب ومنفر وغير اخلاقي ايضا، فخذ مثلا (برامج التعليم ودورها في ذلك) وهي القاعدة والاساس والمنطلق فستجدها تطفح مناهجها بأيديولوجيا الخصوصية والانغلاق، واعادة انتاجها بشكل رسمي ووثوقية مطلقة وفق تاريخ اسطوري منتقى يمجد الذات ويحرض على كره الآخر ويقصيه من الساحة، مع تغييب فاضح للقيم الحقوقية والتأسيس للوعي المدني ومؤسساته، وبالصيغة المدنية الحضارية، وعدم نشر ثقافة العصر لا بل وتشويهها والتزهيد بكل منجزاتها الانسانية ورميها بالكفر والالحاد، والاغتباط بالهامش والمتواضع وتكريسه في عصر لا يرحم العالة والمستهلكين...

اذاً لا تتفاءلوا بالمطروح من الرؤى والافكار على الساحة الوطنية هذه الايام لأنها لن تجد القبول او الترحيب في مجتمع عاجز عن قراءة واقعه على الدوام، وغارق بالخصوصية الضيقة وبالصيغة المعروضة آنفا، لذا كان علينا تسليط الضوء بشكل استباقي إن صح التعبير على هذا المشكل الاجتماعي وبعزم واخلاص غير هياب ولا متردد، فقد استبدت بنا هذه الخصوصية وحرمتنا كل حق مباح ومطلب وطني مشروع، فدون محاربتها وتفكيك جلاميدها، وفضح فلسفتها المنقرضة لن نفوز بالنهوض او الخروج من دائرتها المحكمة، فانتهازية البعض جعلت منها عقدة العقد لاجهاض كل مبادرة او بارقة امل في تغيير او إصلاح، تجده ينبذ المتاح والمجرب على المستوى الانساني في انتظار ان يبتكر نموذجه الخاص والمزعوم، ومن اجل ذلك علينا ان ننتظره حتى يستدعي التاريخي غير الناجز ليؤسس عليه ويبني مشروعه الحاضر، لأن النموذج الغربي في بيئته المعرفية قائم على فلسفات تتناقض جذريا مع عاداتنا وتقاليدنا (خصوصيتنا) وانها نسق ثقافي مغاير تماما لفلسفتنا الاجتماعية والوطنية... حتى وان فندنا ادعاءه بحيادية انظمتها وآلياتها الانسانية ذكرنا او هددنا بتلك الولاءات القبلية والعشائرية والمناطقية والمذهبية الضيقة ليفت من عزمنا ويصرفنا عن تطلعاتنا، ولكن ليعي المثبطون ان تلك المشاكل لن تكون في خيار مع رغبتنا في التغيير والاصلاح، فكم من مجتمع كانت تسوده الثقافة الأحادية والتوتر الطائفي، ومع ذلك نجحت بل كانت السبب الحقيقي في نهوض مجتمعاتهم وتماسكها، ومن يعتقد او يعتبر التطوير والتحديث والمشاركة والتعددية والاقتراع مساسا بالثوابت فهو مخطئ جدا، والحق ان ما توهمناه من خصوصية واصطفافية وخيرية هو المساس الفاضح للقيم والثوابت الدينية. يقول المفكر العربي تركي الحمد في صدد معالجته لهذه الخصوصية البشعة، وبالمناسبة يعتبر هذا الحكم الاستباقي هو أول من نبه على خطورتها ودعا لمحاربتها واجتثاثها من مجتمعنا، اذ يقول «ثقافتنا ومجتمعنا ليسا مؤهلين من هذه الناحية لممارسة الديمقراطية ولكن هل يعني ذلك تركها ورفضها والقول بخصوصية بشعة حتى في هذا المجال؟ جيناتنا لا تختلف عن جينات بقية خلق الله ولكن جينات ثقافتنا هي التي تختلف ولذلك يجب ان تتغير ولكن كيف؟ انتهى». أرايتم كم هو الهم والهاجس لكل وعينا الوطني وفكرنا الجديد لذا علينا ان نجعل منها قضية كل المستنيرين وقضية كل مثقف نقدي في وطننا لا بل وقضيته الاساسية قبل ان يطالب بأي حقوق وحريات، فالبعض لا يصدق ان هذه الممارسة او هذا التوجه استنفد غرضه منذ زمن لأسباب يعيها معظمنا ولكن البعض لا يريد ان يعترف بهذه الحقيقة او هذا الواقع الجديد لمجتمع بدأ يطرق ابواب التغيير والتحديث بشدة، فهم ما زالوا غارقين في هذا الوهم الفادح، يصرون على هذه الخصوصية او هذا الوهم الاجتماعي المخجل ولم يدركوا بعد انهم اصبحوا عقبة كأداء امام التحديث والعصرنة في بلادنا بل ويصرون على لعب هذا الدور بضمائر مستريحة ومن منطلق الوصاية وحراسة الفضيلة دون استشعار لحس وطني او تفهم لظروف طارئة ملحقين الضرر بالجميع وبشكل بالغ. اذ تجدهم متحفزين عند كل تغيير يجاري سنة الحياة مفشلين كل مبادرة للتحديث والتغيير، معتبرين كل هذا العصر بايقاعه السريع ومتغيراته المهمة شأنا لا يعنيهم ويتعارض دوما مع خصوصيتهم او متلازمتهم المرضية، وفي الختام اعتقد ان البعض يتفق معي على سماجة هذا الزعم وتهافته.

* كاتب سعودي

[email protected]