تصوير خاطئ لـ«الخصوصية السعودية»

TT

في مقال سليمان النقيدان الذي نشر في «الشرق الأوسط» يوم الاثنين 3 مارس (آذار) الماضي تحت عنوان «الخصوصية السعودية أولاً»، لو حذفنا كلمة «السعودية» من عنوان المقال ومن متنه، وشطبنا بعض الاشارات التي تحيل مباشرة إلى قضايا جارية في هذا البلد على قدم وساق، وكشطنا مفردات استدراكية فيها شيء من التنازل للموروث، لقلنا إننا بين يدي الدكتور عزيز العظمة في احدى صولاته على المجتمع العربي وعلى مثقفيه الحداثويين الهاربين إلى «الأصالة» واللائذين بحِمَى «التراث»!

ويقتضي الانصاف أن نسجل أن الدكتور العظمة ـ بمعزل عن أي خلاف أو اختلاف مع حدته الحداثية ـ مثقف كبير يعي جيداً السياق الذي ينطلق منه ويدافع عنه والسياقات التي ينقدها في الفكر الغربي وفي الفكر العربي الإسلامي، وهو باحث محترف يمتلك المهارة اللازمة في استقصاء الموضوع الذي يتصدى له، ويقدمه في نسج منهجي متماسك.

مقالة النقيدان كانت عن الخصوصية السعودية التي يتوسع فيها عدد لا يستهان به من السعوديين، ويجعلونها ذريعة لرفض التغيير والتحديث على أكثر من مستوى.

هذه القضية، التي هي بين أخذ ورد في أوساط السعوديين، عالجها الكاتب وكأنها قضية مقدسة مُجمع عليها، ومحاطة بسياج من «التابو». الويل لمن انتهكه أو حاول حتى أن يقتحمه.

وقد صور الكاتب السعوديين كما لو كان لديهم طرح رسمي صلد وشعبوي جارف للأمة السعودية وللقومية السعودية، على أساس من الفاشية الدينية والعنصرية الشوفينية البغيضة!

والأمر نقيض ما قد يقود إليه هذا الفهم من جراء تصويره الخاطئ لقضية الخصوصية السعودية، فالأمة أو القومية الوطنية كمتحد سياسي آيديولوجي حتى في إطارها العقلاني والإنساني قضية غير مطروحة، ولم يسبق لها أن طرحت في التاريخ السياسي والفكري للسعوديين، ولا في تاريخ معارضاتهم القومية واليسارية والدينية.

فالسعوديون لا يتصورون أنفسهم إلا عرباً ومسلمين، والآيديولوجيا المقررة رسمياً، ومُعتنقة شعبياً، هي أنهم جزء لا يتجزأ من الأمة العربية والأمة الإسلامية.

لقد خلط سليمان النقيدان كثيراً ـ وهو يعالج هذه القضية ـ بين قضايا عدة، كالتقليدية والمحافظة والتزمت والتعصب والاقليمية والعنصرية والغلو والتطرف، وأدمجها في قضية واحدة: الخصوصية السعودية، وجعل منها قواماً لفاشية عنيدة ومتصلبة.

وأمام خلط الحابل بالنابل، لعلها فرصة مناسبة الإشارة إلى حقيقة تاريخية وموضوعية، وهي أن السعودية في ماضيها وحاضرها القريب، على مستوياتها الآيديولوجية، لم يوجد فيها ـ بتاتاً ـ تيار يميني فاشي.

هناك يمينيون لكن لم يكونوا فاشستيين، فالفاشية التي ذكر الكاتب شيئا من ملامحها في أكثر من موضع في مقاله، تقتضي كأساس آيديولوجي تصوراً علمانياً واضحاً وصريحاً لمفاهيم الأمة والتراث والدين والثقافة والتاريخ والدولة. بيد ان أولئك كانوا معادين للعلمانية، ويطرحون تلك المفاهيم على أساس ديني عام.

أما الحركات السياسية الآيديولوجية المعارضة، التي ينطوي فكرها على تصور علماني عام وخاص، فلم يكن من بينها كذلك حركة يمينية فاشستية، وإنما كانت كلها محض آيديولوجيات تحررية ذات منزع قومي سياسي عروبي ويساري أممي.

وفي هذا المقام، لعله من المناسب أيضاً، التنبيه إلى عدم الانسياق كثيراً خلف الوصف الذي وضعه المثقف الأمريكي فرانسيس فوكوياما للتيارات الإحيائية الأصولية ذات النهج النضالي والثوري في العالم الإسلامي، وهو أن أصحاب تلك التيارات هم «فاشيو عصرنا».

فهذا الوصف إعلامي دعائي وليس علميا منهجيا.اذ ان التشابهات والتماثلات في بعض الأساليب وفي بعض الملامح ليست كافية لرجم أصوليينا بالفاشية.

إن فوكوياما في الورقة التي أطلق فيها هذا الوصف، قبل حوالي ثلاث سنوات، تجاهل أن التشابهات والتماثلات ما بين الأصوليين والشيوعيين هي أشد وضوحاً مما هي بين الأصوليين والفاشيين، عقيدةً وحركة. لقد تجاهل ذلك عن عمد، لأنه لو وصف الأصوليين بأنهم «شيوعيو عصرنا» فإنه لا يحقق الغرض الدعائي الذي ارتآه. فوصف كهذا ـ بصرف النظر عن علميته ومنهجيته ـ لا يعد وصفاً مخزياً ومرعباً يدعو للهلع في الضمير والعقل الغربي، كما هو حال الوصف بالنازية أو الفاشية.

كنت أشرت فيما سبق أن سليمان النقيدان خلط قضايا عدة وألبسها طاقية واحدة، وهي طاقية الخصوصية السعودية، وأضيف هنا: ان خلطه كان مؤذياً لمن أراد أن يفهم ويستبين. فكان وهو يتحدث عنها يخلط خلطاً بيناً بينها وبين قضايا أخرى أشرت إليها فيما سلف. ولم يعرِّف بالخصوصية السعودية ولم يحدد ملامحها، وإنما اكتفى بإدانتها وشجبها ونسب كافة المصائب والشرور إليها.

ولا يعرف قارئ المقال هل هو يدينها ويشجبها في مواجهة العرب والمسلمين، أم هو يدينها ويشجبها في مواجهة الغرب وغير المسلمين.

فإن كان يطرحها في مواجهة العرب والمسلمين، فليس إذاً ثمة خصوصية للسعوديين، فالاستعلاء والعنصرية كمشاعر وسلوكيات هي مظاهر قبيحة ودميمة موجودة في كل بلد عربي وفي كل بلد مسلم، والسعوديون ليسوا استثناءً في ذلك.

وإن كان يطرحها في مواجهة الغرب، وغير المسلمين، فكثير مما ذكر يدخل ضمن النظرة الإسلامية العقدية للغرب ولغير المسلمين عموماً، وبالتالي فان ما ذكره لا يخص السعوديين وحدهم.

لقد أوقع الكاتب نفسه في كلام متهافت، وهو ينسب كل المصائب والشرور للخصوصية السعودية. فبخصوص بدايتها وظروف نشأتها يقول: «اجترحناها كمقولة متعالية وقامعة للآخر في وقت الرخاء الباذخ الخادر اللذيذ».

وعلى ضوء هذا التحديد الزمني لسنوات البداية، وهي سنوات الطفرة المالية، نسأله: هل هذا يعني أن السعوديين قبل تلك السنوات كانوا أسلس في تقبل: «القيم الحقوقية والتأسيس للوعي المدني ومؤسساته، وبالصيغة المدنية الحضارية"؟!

ولم لم تنخرط في «القيم الحقوقية والتأسيس للوعي المدني ومؤسساته، وبالصيغة المدنية الحضارية» البلدان العربية التي كانت في ما مضى أكثر تطوراً وأكثر حداثة منا؟!

ولماذا هو موجود فيها إلى يومنا هذا، ما يعتبره آفات في المجتمع السعودي «شعب مختلف وبخصوصية ثقافية ومكانية» و«فرْز خلق الله وتصنيف الشعوب» و«اصطفائية وخيرية» و«تاريخ أسطوري منتقى يمجد الذات ويحرض على كره الآخر» و«الغلو» و«الخصوصية والانغلاق»؟!

نوّل النقيدان في غمرة استسلامه للإنشاء السعوديين شرفاً علمياً لم يدعوه لأنفسهم، وهو اجتراح مقولة الخصوصية السعودية!

فالخصوصية كمقولة هي غربية المصدر، وعلمانية المحتوى، لدى فحصها والتأمل فيها ملياً. وهي مقولة منهجية وعلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهناك اتفاق عام عليها بين كافة المدارس الفلسفية والمذاهب الاجتماعية الحديثة.

وقبل أن يتبناها بعض أطراف في التيار الإسلامي من الباحثين والمفكرين في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كانت هذه المقولة متبناة ومنظرا لها كآيديولوجيا في اليمين الفكري والسياسي في لبنان منذ منتصف القرن الماضي. كما أنها كانت تتردد في جنبات الأطاريح العالمثالثية، وفي أبهاء اليسار الجديد.

ومن هذين الفضاءين الأخيرين تحدرت المقولة إلى الإسلاميين، وذلك عن طريق المتحولين من الفكر العلماني إلى الفكر الإسلامي.

وبما أن المثقفين السعوديين هم صدى أمين لمحيطهم الثقافي والآيديولوجي العربي، صار البعض منهم يستخدمها في كتاباته الصحافية والثقافية. ثم شاع تبنيها لاحقاً في الخطاب السياسي والإعلامي والثقافي والفكري لدى فرقاء ليسوا بالضرورة متفقين على معناها وعلى حدودها.

بعض السعوديين يستخدمها بوصفها مقولة منهجية، والبعض الآخر يستخدمها بوصفها رصف كلمات.

والقول إن للسعوديين خصوصية تاريخية ثقافية هو قول صحيح. فللمصريين وللمغاربة وللشوام وللعراقيين ولليمنيين وللعرب والمسلمين وللهنود وللصينيين.. الخ خصوصية تاريخية ثقافية.

وبما أن سياق الحديث عن السعوديين، أكمل فأقول: إن للسعوديين خصوصية سياسية واجتماعية وثقافية ودينية، ولا يمكن فهم هذا المجتمع وتاريخه إلا بالفهم الداخلي والدقيق لهذه الخصوصيات، وفهم ـ أيضاً ـ دائرته الأوسع والأعرض، وهما: العالم العربي وعالم الإسلام.

والخصوصية ليست بالضرورة ايجابية، فقد تكون ايجابية وقد تكون سلبية.

والخلاف فيها هو بين اتجاه ينظر إليها بوصفها جوهراً ميتافيزيقيا متعالياً، واتجاه ينظر إليها بوصفها حادثاً تاريخياً. وفي ظلها يثور جدل بين قائل بنسبيتها وآخر يرى أنها مطلقة أو اطلاقية، ولا يمكن تعديها أو تجاوزها حتى لو كان من المؤمنين بضرورة تخطيها.

في أية دعوى أو أطروحة أو مقالة، يفترض أن يتوفر الحد الأدنى من التماسك في منطقها الداخلي، بحيث لا تظهر في عين الناظر إليها من الخارج أنها غير مستقيمة وغير متسقة إلى حد التناقض المحرج.

والنقيدان وقع في مثل هذا التناقض. وتأملوا معي هذه الفقرة: «الكل يعلم ويقر ويعترف أن سبب مشكلتنا أو قل سبب جمودنا الحضاري وعدائنا (للحداثة) نحن السعوديين هو اننا اختلقنا كذبة تاريخية سوداء بحجم الوطن وشعبه دون وعي منا لأبعادها الكارثية وعنادها الحضاري وقهرها الاجتماعي، وأسسنا عليها افكاراً وتوجهات خاطئة وهي: إننا شعب مختلف وبخصوصية ثقافية ومكانية». انتهى.

ولا أعرف هنا ما المشكلة؟

فما دام أن (الكل) يعلم و(يقر) و(يعترف) بأنه معاد للحداثة، وأنه اختلق في سبيل ذلك الخصوصية السعودية التي هي أس المشاكل وأساسها، لماذا لا يفعلون ما أمرهم به في السطور التي مهد فيها للفقرة المستشهَد بها: وهي «أنه آن الآوان لمراجعتها ـ أي الخصوصية السعودية ـ وإعادة النظر في فلسفتها والخجل والاعتذار والبراءة منها، واعتبار كل هذا واجباً ومطلباً تصحيحياً وطنياً ملحاً».

ولِمَ السعوديون مختلفون بين رأي يحكم أن السعودية كانت اقل (أصولية)، مما يجب، ورأي يعتقد أنها أقل (حداثة) مما ينبغي؟!

وكما تلاحظون في الفقرة السابقة، وحّد سليمان النقيدان (الكل) في نفسه، وصاروا يهتفون من ورائه: (نعلم)، (نقر)، (نعترف).. وصهر الكل في واحد، بطريقة فاشية، وأسلوب فاشستي.

أنا متأكد انه لم يتقصّد هذا المبدأ الفاشي(الكل في واحد)، ولم يتعمد الأسلوب الفاشستي، وإنما هو اتقاد الحماسة وفوران العاطفة ونبل المقصد في سحب الآخرين عنوة للصواب الذي يعتقده ويؤمن به.

ان سليمان (أقول هذا استناداً إلى نقاط في المقال لم اذكرها) يفهم الاختلاف أنه مشادة بين صواب وخطأ، والأمور قد لا تكون دائماً كذلك، فهي ـ أحياناً ـ بين صواب وصواب أو خطأ وخطأ.