خان مرجان في بغداد وعمارة الرمق الأخير
الاحـد 05 جمـادى الاولـى 1424 هـ 6 يوليو 2003 العدد 8986
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة:
د. علي الثويني
إذا كان تاريخ المدائن والمجتمعات الإسلامية قد كتب بإسهاب على مدى تاريخه فان لمدينة بغداد الأسطورية نصيب الأسد في ذلك حتى اختيرت من بين اكثر المدائن نموذجية في مصادر التوثيق العمراني والاجتماعي. وعندما سقطت عام 1258م وهجرها الناس والحضارة، تلتها حالة من الغموض والضبابية لم تترك سوى نتف إخبارية وفتات من المعالم المعمارية التي أفسحت لنا غيضا من الخيال عن حالها. ومن هذه المعالم خان الخواجة مرجان الذي بني عام 1358م وكأنه يريد أن يحتفي بمرور قرن من الزمان على صمودها منحنية. وفي ذكر المحاولات التي رامت الى إحياء ما مات من عمارة المسلمين بعد جفاف نبعها في بغداد، لا يمكن القفز فوق ما تجسد في عمارة (خان مرجان) التي هي احد نتاجات هذا العصر التنازلي، حتى يمكن اعتبارها من اكثر المحاولات الجادة في إعادة الروح للمدينة من خلال تشجيع حركة تجارة المرور الجالبة للربح والنماء وربطها بحركة طريق الحرير التاريخي الذي سيطر عليه المغول من المنبع وحاولوا اقتطاف مصبه في الشام من دون أن يفلحوا ثم ثبتوا مركزه في مدينتي تبريز وسمرقند الواقعتين في منتصف الطريق. وعروجا على الظاهرة المعمارية التي تمخض عنها هذا المعلم والذي أراد معماره أن يظهر مدى تعلقه بالميراث وإحيائه من خلال تجسيد اكثر العناصر خصوصية لها وهو (الطاق) الذي هو احد نتاجات العمارة الرافدية الذي طفق استعماله الآفاق بعد أن وجد أول اثاره في (تبه كوره) قرب الموصل وتعود الى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد وفي (تل الرمة) شمال المدائن (طيسفون) ويعود الى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وفي مدينة أور نجدها اليوم في عمارة قبر الملك (أباركي Abargi) وفوق ضريح الملكة (شعباد Shubad) اللذين يعودان لعام 2500 ق.م. وفي مسعى لمعمار الخان الحاذق الى تطوير هذا العنصر من خلال الإضافات الإبداعية فقد أعاد الى الحياة نوعاً من أنواع (الطوق) لم يتجسد في العمارة الإسلامية منذ قرون خلت، ويمكن اعتبار ذلك المسعى «النهضوي» بادرة لو كانت قد سارت بنفس الإيقاع والحماس بمدد تصاعدي لكان قد كتب لها أن تتوصل الى فتوح معمارية باهرة، ولكانت العمارة الإسلامية وصلت الى أعلى المراتب المثرية للعمارة العالمية. وفي التعريف بمعنى الخان ووظيفته، فهو محط رحال التجار في مدن الطريق بغرض الترويج للبضاعة أو الاستراحة من عناء الطريق على أبعاد محسوبة بحسب طاقة المسافر والأنعام وهي بحدود 30 كلم. وقد انتشرت تلك المعالم على طرق القوافل منذ القدم ولا سيما في العصور التي سبقت الإسلام في مدائن تدمر والحيرة والحضر والبتراء ومدائن صالح وكذلك مكة المكرمة. وقد اتخذت في العصور الإسلامية طرزاً مختلفة تبعا للمدرسة المعمارية التي نشأت في كنفها ونعتت بأسماء مختلفة فهي «خان» و«خان السلطان» او «التيم» وهم فارسية أو «القيسارية» في الشرق وهي رومانية و«كارافان سراي» في آسيا الصغرى والبلقان وهي تركية وتعني «قصر القافلة» و«وكالة تجارية» في الشام ومصر و«سمسرة» في اليمن و«فندق» في المغرب العربي والاندلس وهي واردة من الكلمة اليونانية (Pandokeion). وجل الخانات ذات مسقط مكشوف الوسط تدور حوله مرافقها. ثم تطورت هذه الفكرة الوظيفية على أن تستوعب المزيد بمساحة أقل فشرع ببنائها بعدة طوابق يكون الأرضي منها لغرض خزن البضاعة والإسطبلات وأما الطوابق العلوية فتوظف للسكن والراحة. وقد كانت في العراق والشام وخاصة في أسواق (حلب) لا تعلو عن الطابقين بينما في مصر كانت تصل حتى الخمسة طوابق كما في وكالة (الغوري) وخان (الخليلي). وقد أنشأت صفوة القوم الخانات بغرض الكسب ثم لتصبح وقفاً لمدرسة أو مسجد أو مشفى بغرض مدها بما تحتاجه لديمومتها. وهذا هو حال خان مرجان الذي أنشئ في عهد السلطان الجلائري الثاني (أويس ابن الشيخ حسن) وهو أول من ثبت هذه الدولة المترنحة. و(ويس) هذا الملقب (بمعز الدين) تولى السلطة بعد أبيه عام 1356م، ومما ذكر عنه انه كان جميل المنظر والمظهر وكان أهل بغداد يتسابقون لرؤية طلعته مترجلا فرسه. ومن مناقبه انه كان رجلاً فناناً ومرهف الإحساس. وكان في خدمته كرئيس للخدم أو «اغا الحرم» مملوك رومي الأصل يلقب بـ«الخواجة مرجان» وكان نسبه يرجع كما تشير الكتابة على باب المعلم الى «اولجياتو محمد خدابنده» أحد سلاطين المغول المشهورين. وهذا الرجل الغريب عن بغداد وتراثها ترك فيها أجمل معالمها اليوم وهو الجامع والمدرسة والمشفى ثم الخان. وقد هدم جزء كبير من المدرسة التاريخية هذه في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين على يد أمين بلدية بغداد «أرشد العمري» المهندس القادم إليها من الإدارات التركية، وذلك بغرض استقامة شارع الرشيد. وقد بني خان مرجان بعد عامين من المدرسة ويقع اليوم مقابل جامع مرجان من الجهة الغربية في شارع السموأل على موقع المدرسة النظامية الشهيرة. وهو خان مغطى على عكس ما الفته عمارة الخانات حتى أطلق عليه الترك «خان الأورطمة» أي «الخان المغطى» ثم استعملوه كعنبر للجمارك. ويرد في الكتابة التي تعلو باب الخان بعد البسملة ما يلي: (أمر بإنشاء هذا التيم والمنازل والدكاكين المولى المخدوم الأمر الصاحب الأعظم الأعدل ملك ملوك الأمر في العالم، صاحب العدل الموفور، عضد السلطنة والامارة، حامي مرتبة الامارة والوزارة، افتخار شهد الأوان، المخصوص بعناية الرحمن أمين الدين أمين الأولجايتي، وقفها على المدرسة المرجانية ودار الشفاء بباب الغربة... الخ.).

ومخطط الخان مستطيل الشكل حيث يبلغ طوله 30.25م وعرضه 11.40م ويبلغ ارتفاع ذروة عقادته 14م. ويتكون المخطط من بهو وسطاني واسع تحيط به 22 غرفة تفتح أبوابها عليه يعلوها في الطابق العلوي عدد 23 غرفة بزيادة غرفة واحدة تعلو المدخل، وتفتح الغرف على شرفة أو طنف من جهاته الأربع على ارتفاع 6م. والخصوصية الفذة التي تصل الى حد العبقرية في عمارة هذا المعلم تكمن في تسقيف بهوها بقبو يشمل الطابقين مقطعه عقد مدبب مرسوم بأربعة أقواس. وقد لجأ المعمار هنا الى طريقة قديمة اختصت بها العمارة العراقية قبل الإسلامية ووجدت بقاياها في العمارة الساسانية في مدينة «الكرخ» في «عربستان» وتقع اليوم متاخمة للحدود مع العراق والتي بناها (شاهبور الثاني 309 ـ 379م) ويطلق عليها اليوم «طاق إيوان» أو «ايوان كرخا».

وتتميز هذه الطريقة ببناء عقود من الآجر عرضية متساوية توضع بعرض القاعة أو الإيوان وتتوالى وراء بعضها في الاتجاه الطولي ويملأ ما بين كل عقدين بقبو عرضي يسير بين الجارين الجانبيين ويرتفع نصف دائرته فوق قمتي العقدين اللذين يحصرانه وكأن القاعة قد غطيت بقبو طولي كبير ينقسم الى جملة عقود متوالية تفصل بينها أقبية عرضية. وقد طبقت هذه الطريقة جزئيا في عمارة بادية الشام إبان العهد الأموي في قصير عمره وحمام الصرح بينما بدأ هذا النوع من الحلول «التسقيفية» يضمحل خلال الحقبة العباسية. ومما يدعو للإعجاب تسقيفه بثمانية (طوق) ضخمة جزئية عالية عرض كل منها 15.2م ويعرفه البناؤون التقليديون في العراق باسم «الدور» وهي طوق متوازية تفصل بينها فراغات مسافة كل منها 1.9م عدا المسافة الوسطية التي يبلغ بحرها 3.22م. وقد استثمر المعمار تلك الفراغات حيث عقدها بشكل متدرج، مبرره أمران هما: لتخفيف وطأة ثقل الطاق على الجدران الجانبية الحاملة وعدم تسقيفها بكتلة متضامة تغطيها كلها. والمبرر الثاني يكمن في كسب حيز من الإضاءة الطبيعية للخان من خلال الفتحات التي تركها تتخلل العقادة الثانوية المتدرجة.

أما الممشى المطنف الذي يؤدي الى الحجرات العلوية فقد تم التحضير له من خلال صفين رئيسيين من المقرنصات والكوابيل الآجرية التي خلقت المدى الكافي لتجسيده. وبالإضافة الى وظيفتها في الحركة الأفقية فقد يمكن اعتبارها إحدى المعالجات الفنية لبهو الخان من الداخل بذلك النوع من العناصر الحجمية الناتئة وكان مغزاها التقليل من الانطباع بالضجر والأحادية (الآجرية) الذي تتركه الحيطان الداخلية الصماء في نفوس مرتاديه. ويشدد في ذلك المنحى الجمالي لعبة الضوء والظلال الوارد من النور المخترق للسقوف المقباة.

وهنا نقف عند آثار تلك الحقبة التي أراد لها (نصير الدين الطوسي) وبعض المخلصين لإرث لبغداد أن يعيدوا لها المجد الغابر دون أن يفلحوا في مسعاهم ولاسيما بعد أن حل فيها (تيمورلنك) عام 1401م ودولتا الخروف الأبيض والأسود التركيتان المتناطحتان حتى السقوط المزدوج، ثم الفرس الصفويون عام 1508م وتلاهم الترك العثمانيون عام 1534م الذين تعاملوا بسفهٍ مع ارثها، بعد أن صنفوها غنيمة حرب مباحة لمن شاء من سلاطينها وولاتها، حتى لم نجد معلماً يستأهل الانتباه خلال تلك الحقبة حيث لم تخلُ إلا من مجموعة من المساجد التقليدية المشادة في ثنايا المدينة وعلى أنقاض خرائبها والتي لم تأت بأدنى جديد أو إبداع معماري والتي عادة ما بناها الولاة طلباً لعفو الله ومغفرته على ما اقترفوه من مظالم في دنياهم.

لقد ورد ذكر هذا الخان على لسان من مر ببغداد أو كتب عنها ومنهم العلامة الآلوسي في كتابه عن «جوامع بغداد»، ومن الرحالة الغربيين من رسم له صورة داخلية في القرن الثامن عشر. ويشعر هذا المعلم اليوم بغربة الأوطان والجوار بالنظر لإزالة كل ما يحيط به من العمارات التي تذكرنا ببغداد مجد الإسلام. وقد ختمها شق (شارع الرشيد) «الكارثي» الذي طمس أجمل ما فيها. وأزال (حسام الدين جمعة) و(أرشد العمري) امينا بلدية بغداد أجمل المعالم المحيطة بالخان لتبنى في محلها العمارات الخرسانية السمجة.

وكم نتمنى أن نجد طريقا أو دليلا يدلنا الى اسم معمار ذلك الخان الذي لم نجد له ذكراً في ثناياه بالرغم من أن إقحام اسم الخطاط كان قد ورد في اللوحة التي تعلو المدخل. وربما أراد هذا المعمار أن لا يدعو فخرا وأن يؤثر الكفاف ويقنع برحمة رب العباد يوم المآب، ثم لينتظر الرحمة عليه من لدن كل من يكتشف في هذا المبنى انه تمتع بذهن ثاقب وأنامل مبدعة سمت الى ذروة الإبداع الإنساني.