أسطورة الهروب كما يرويها حكيم دلمون في أطلس المتنبي
وضع يوسف أحمد الشيراوي قبل رحيله عشرات الخرائط للأمكنة المذكورة في قصائد أبي الطيب شاعر العربية الأكبر
الجمعـة 27 محـرم 1425 هـ 19 مارس 2004 العدد 9243
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: فضاءات
محيي الدين اللاذقاني

انتهت رحلة هرب المتنبي من كافور في شهر آذارـ مارس من سنة 961 ميلادية. أما لماذا أحدد التاريخ بهذه الدقة والثقة فلاني أعتمد على خبير في الفلك والتقاويم وشعرالمتنبي، وهو الصديق الراحل يوسف أحمد الشيراوي الذي اتخيله في أربعينه وهو يرفع اصابع كفه الايمن الى الاعلى ثم يهبط عليها أفقيا وبأناقة خبير مؤتمرات بباطن كفه اليسرى وهو يقول منتزعا الحديث من الصاخبين حول المتنبي: نقطة نظام ... نقطة نظام... وفورا يهدأ اللغط وتبدأ الشيراويات العميقة المتقنة بالتطاير كالفراشات لتضفي على الحوار نفحة قزحية ملونة، بتنا يا أبا احمد نفتقدها منذ غادرتنا قبل ان نستأذن في نقطة نظام نطالبك فيها ان تبقى.

والشيراوي الذي سأحتفل مع القراء الكرام بأربعينه بالوقوف عند كتابه الهام «أطلس المتنبي» حجة في ابي الطيب وكيف لا يكون وهو الجليس الابدي لشاعر البحرين الكبير ابراهيم العريض الذي وضع كتاب «المتنبي بعد ألف عام» في الستينات فكان في مجاله عصا موسى التي ابتلعت كل ما حولها من الافاعي الورقية التي تناولت قصائد وحكايات شاعر العربية الاكبر.

لقد كان الشيراوي عاشقا حقيقيا للتراث وقد بلغ به هذا العشق حد الهوس فكل من يتألم بحساسيته القومية المرهفة لانكسارات الحاضر يتدثر لمقاومة الهزائم الداخلية بحضارة مجيدة سيرت البشرية وحسنت ظروفها لمدة خمسة قرون خصبة من العلم والادب والتقدم الحضاري، وان كنت لا تصدق هوس الشيراوي الايجابي بالتراث فتعال نقرأ معا مناجاته للدينار العربي الاول الذي صكه عبد الملك بن مروان من كتابه الآخر الهام «الاتصالات والمواصلات في الحضارة الاسلامية»:

«انني اجد العزاء كل العزاء في النظر اليها والتحدث اليها وخصوصا في حالات الهم والغم التي تعتري الفرد العربي في هذا الزمن الحافل بالخلاف والتشرذم والتخلف التقني، انظر اليها ـ الدنانير الاسلامية الاولى ـ فأحس اني جالس في محل مرتفع يشرف على وادي الحضارة الاسلامية بغناها والوانها وعطائها وجودتها، واقلب واحدا من تلك الدنانير بين يدي وأتساءل ترى من استعمل هذا الدينار؟ هل هو دينار هند، وقصتها مع الحجاج معروفة؟ هل دفع خراجا للرشيد عندما انحبس المطر عن بغداد فقال كلمته المشهورة: ايتها السحابة اذهبي وامطري انى شئت فخراجك سوف يأتي الي، هل كان واحدا من الف دينار دفعها سيف الدولة لابي الفرج الاصفهاني عندما قدم له كتاب الاغاني؟ هل هو الدينار الذي حصل عليه المتنبي مقابل قصيدته الدينارية؟»

وذات يوم ثارت ابنة الشيراوي الطبيبة اثناء احتلال الكويت على حب ابيها المبالغ فيه للتراث، وقالت له وهي تطلب منه ان يكف عن الماضي ويركز على المستقبل: كل هذا جيد لكن ما فائدته ؟ فما كان من الاب حكيم دلمون الذي يعي أهمية التراث الا ان طلب من ابنته ان تحفظ هذين البيتين:

من لم يع التاريخ في سره

لم يدر حلو العيش من مره

ومن وعى أخبار من قد مضى

اضاف اعمارا الى عمره

بهذا العمق والاحاطة تعامل يوسف بن احمد الشيراوي مع تراث امته.

أمراء وعلماء وأدباء

أما كتاب أطلس المتنبي فرحلة عمر بين الخرائط والاماكن حملت المؤلف وهو كثير الاسفار كالمتنبي من سمندوـ بلغراد الحالية ـ في يوغسلافيا الى شعب بوان قرب شيراز في ايران بكل ما بينهما من فياف وقرى ودساكر،

ولك ان تعتبر كتاب أطلس المتنبي بناء على رغبة الكاتب المتواضع حتى الثمالة، تأليفا جماعيا فقد قدم له الطيب صالح وراجعه غازي القصيبي وشارك في أفكاره واغناء بحوثه علماء أجلاء وامراء منهم الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض الذي يشكره الشيراوي في المقدمة لطلبه من علماء المملكة مساعدة المؤلف في تحديد موقع جبل ثبير الذي استشهد به احد شراح المتنبي وهو جبل من جبال مكة الشرقية قريب من جبل ثور .

لقد كان كثيرون قبل كتاب الشيراوي يظنون ان المتنبي كان في نجد حين نظم اللامية الذائعة «ما لنا كلنا جو يا رسول...» التي يقول فيها :

نحن أدرى وقد سألنا بنجد

أطويل طريقنا أم يطول

لكننا في الاطلس نكتشف ان نجد المذكورة في البيت السابق ما هي الا قرية قريبة من الكوفة وليست نجد الاخرى التي كانت قبل دمشق وبغداد المصنع الاول للرومانسية العربية.

ولا يقف الامر عند تحديد الامكنة تحديدا ميكانيكيا فالكاتب في هذا الاطلس واثناء حديثه عن امكنة هذه القصيدة بالذات يطرح سؤالا لم يسبقه اليه احد ويرى من قراءته المعمقة للمتنبي وصحبته الطويلة له انه كان يحرض سيف الدولة على حرب البويهيين حين قال في اللامية وما اكثر لامياته:

انت طول الحياة للروم غاز

فمتى الوعد أن يكون القفول

وسوى الروم خلف ظهرك روم

فعلى أي جانبيك تميل

وقد كان الشيراوي - رحمه الله - يحرص حين تعارفنا في اوائل التسعينيات ان يسألني عن أماكن بعينها في حلب واللاذقية وحمص شهدت صولات المتنبي فأعطيه أجوبة تزيده ارباكا ولا تساعد اطلسه العلمي المتقن، لأن تعاملي مع أمكنة المتنبي في تلك المناطق كان تعاملا رومانسيا بحتا لا أثر فيه لبحث ومنطق وتدقيق، فقد أتيت حلب يافعا وغادرتها شابا ومخيلتي لا تختزن غير الدهشة من أمكنة المتنبي في تلك المدينة العريقة التي شهدت فترة استقراره الوحيدة في كنف سيف الدولة.

لقد دهشت اول مرة أطأ فيها تراب حلب لوجود حي وباصات تحمل اسم سيف الدولة الذي لم يكن قد صادفني الا في الكتب، فلما درست في ثانوية الكواكبي التي تواجه اذاعة حلب وتعتلي قمة جبل الجوشن الذي كان المتنبي يسامر سيف الدولة عند سفوحه في المكان الحالي لملعب كرة القدم اكتفيت باللذة العاطفية لأن المتعة العقلية التي تغري بالبحث والكشف لم تكن قد نضجت بعد، فلما وجدت من يدقق في تفاصيلها وأمامه القصائد والخرائط عاد بعضها للذاكرة بكل تفاصيله الملونة وكأنه صورة فوتغرافية مخزنة جيدا في كومبيوتر .

وقد اختلفنا ذات يوم حول مدلولات العودة الى ذكر حمص في شيراز قبل مقتل الشاعر الكبير بشهر في دير العاقول قرب بغداد:

احب حمصا الى خناصرة

وكل نفس تحب محياها

حيث التقى خدها وتفاح لبنا

ن وثغري على محياها

وكنت أظن كما نصصت على ذلك كتابة في «ثلاثية الحلم القرمطي»

ان حمص بقيت الرمز السياسي النقي للثائر الشاب، فمعظم الامكنة المذكورة في تلك القصيدة كان يجسد في مخيلته عنفوان الحلم القرمطي الاول حين ثار قرب سلمية وتم القبض عليه وأسره في قرية كوتكين الحموية، ومن الطبيعي ان يذكرها ويتذكرها في مرحلة الانكسار الاخيرة في شعب بوان حيث الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان.

وفي الاطلس - وهو من منشورات العام الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر - وجدت الشيراوي الرومانسي المتنكر في ثياب وزير يصر على تفسيره الرومانسي لعودة حمص من لاوعي الشاعر الى قصائده الاخيرة، ففي تلك القصيدة، ومطلعها من خيرة المطالع:

كل جريح ترجى سلامته

الا فؤاد دهته عيناها

يرد كما يلاحظ الشيراوي بذكاء ذكر الشامية التي يفترض في اطلسه انها أم محسّد الزوجة الاولى:

شامية طالما خلوت بها

تبصر في ناظري محياها

وقد تكون تلك الشامية أجمل من خولة الحلبية من أولئك الشاميات اللواتي لا يقف امام سحرهن سور ولا حجاب لكنها تظل في مجال الفرضيات فليس لها ذكر خارج هذا البيت في اي مكان وتشاء الصدف ان يرافقني على الطائرة قبل يومين زميلنا وصديقنا المشترك خالد القشطيني وقد اخذنا الحديث كالعادة الى الشيراوي والمتنبي والقصيبي والطيب صالح وخلافاتنا التي لا تتوقف حوله، فاذا بخالد يأتي وعلى غير توقع بفرضية جديدة تنسف فكرة زواج المتنبي وانجاب زوجته أو زوجاته، فخالد يعتقد ان المتنبي ربما يكون مثليا صاحب غلمان، وكل دليله على ذلك ان شاعر العربية الاكبر كان متعلقا بجدته وامه وهذه ـ كما تعلم القشطيني من الثقافة الغربية ـ من الصفات الراسخة في المثليين .

ولو سمع الشيراوي هذه الفرضية لطلب فورا - نقطة نظام - ليضحك من هذا الدليل الذي يضع الامة بكاملها في خانة الاتهام فمن ذا الذي لا يحب امه وجدته في بلاد لا يجد فيها الرجال العطف والدفء و الحنان الا في صدور الامهات والجدات.

لقد وضع الشيراوي في أطلسه عن المتنبي خارطة لرحلتيه الاولى والثانية الى بلاد الشام وخارطة لمنطقة الثورة والسجن وسط سورية وخرائط اخرى لمواقع زياراته لطبرية وانطاكية واللاذقية التي ترد في شعره ثلاث مرات منها قوله:

لك الخير غيري رام من غيرك الغنى

وغيري بغير اللاذقية لاحق

والمحير انه يحكي عن ضيعة كانت للمتنبي قرب معرة النعمان لم يذكر اسمها، وهذا من الغرائب، ومما لم يركز عليه شارحه وعاشقه الاكبر أبي العلاء ابن المنطقة التي تبعد عن قريتنا سرمدا قرابة سبعين ميلا.

من الفسطاط للرهيمة

وبعد هذه المناطق ركز الشيراوي تركيزا خاصا على خارطة الهروب الكبير من مصر التي استغرقت مكانيا قارتين، وزمانيا اربعة اشهر، والمؤلف يعتبر رحلة الهروب اسطورة من الاساطير، فالشعراء والفرسان كانوا يتبارون في قطع الفيافي، لكن ليس في مثل تلك الظروف العدوانية التي تجتمع فيها قسوة الطبيعة مع العداوة السياسية، فالشاعر يسافر في بلاد على كل ناصية فيها حارس للعبد الذي اشتراه سيده الاخشيدي ونسي ان يشتري معه العصا الاستاذ كافور، ومع ذلك يجتازهم ويخدعهم جميعا ليصل في رحلته الاسطورية من فسطاط القاهرة الى رهيمة بغداد ذات امسية ربيعية في مثل هذا الشهر قبل 1043 من الاعوام ويقول عن ذلك:

وردنا الرهيمة في جوزه

وباقيه اكثر مما مضى

فلما انخنا ركزنا الرما

ح بين مكارمنا والعلا

وبتنا نقبل اسيافنا

ونمسحها من دماء العدا

ولا شك ان فكرة اطلس عن شاعر بهذا الانتشار ولدت من معرفة عميقة بقلقه فهو في السفر - سوبر ستار - ولو كان في عصرنا لكان من حملة البطاقات الذهبية ـ مايليج ـ على كل شركات الطيران الكبرى، ليس لأنه القائل قبل عصر الطائرات النفاثة:

على قلق كأن الريح تحتي

أوجهها جنوبا او شمالا

بل لانه لم يتوقف طيلة اربعين عاما منذ ترك الكتاب عن التنقل خوفا وطمعا وطلبا للمتعة والمجد، فمن كثرة تنقله بين البلدان ولد سؤال الفضوليين:

يقولون لي ما انت في كل بلدة

وما تبتغي؟ ما ابتغي جل ان يسمى

وولد جوابه الثاني الذي يجعل منه مواطنا كونيا قبل عصر العولمة في قصيدة اخرى:

واني لنجم تهتدي به صحبتي

اذا حال من دون النجوم سحاب

غني عن الأوطان لا يستفزني

الى بلد سافرت عنه ايابان

اطلس الشيراوي عن المتنبي ما كان يمكن ان ينجز بهذه الدقة لولا قصة حب حقيقية ربطت المؤلف المعاصر بالشاعر القديم ـ الجديد وما تزال تجمع وتوحد بين قلوب كثيرة لادباء وشعراء وسياسيين يحملون الهم القومي العربي ويهولهم ما حصل لحال الامة وحين يبحثون عن العزاء لا يجدونه الا عند ابي الطيب الذي ظل صوت العروبة الانقى، ومتى؟ في زمن لم يكن فيه بعد الحمدانيين والتنوخيين في المنطقة كلها حاكم عربي واحد، فالبلاد العربية بأسرها وقعت زمن المتنبي تحت سيطرة الاجانب.

انه زمن يشبه زماننا لم يتغير كثيرا منذ ابي الطيب الذي كان يسمي الاماكن بغزارة ما سبقه اليها احد، وكأنه يخاف على ارض العروبة ان تفقد اسماءها بعد ان فقدت استقلالها وصارت منذ الف عام ونيف مطية للمصالح والمطامع الاجنبية.