محمد عمر خليل: ذاع صيته في الغرب ووجد ضالته في الشرق
استلهم أعماله من هارلم ومراكش والبتراء
الاثنيـن 27 رجـب 1433 هـ 18 يونيو 2012 العدد 12256
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: يوميات الشرق
جدة: عبد العزيز عاشور
حقق الفنان التشكيلي السوداني محمد عمر خليل اعترافا دوليا، باعتباره أحد أهم فنانين المهجر وأكثرهم تأثيرا في مجال الحفر. عام 1978 تمكنت مدينة أصيلة المغربية بفضل حيويتها وموقعها الثقافي أن تستعطف قلب هذا المبدع وأن تعيد إليه شوقا وملاذا يتوق إليه بالعودة إلى الوطن العربي الفسيح، مثل طيور مهاجرة، آنذاك بدأ خليل تأسيس مشروع موسم أصيلة للحفارين، غير أن الفنانين قاطعوا المشروع بحجة منطقهم الخاص، خليل لم يرد على هذه المقاطعة بمثلها بل مضى إلى حال سبيله، معتبرا أن المسألة بحاجة إلى وقت، سنة بعد أخرى تأكد للفنانين أن هذا المشروع يعنيهم ويخصهم، بهذا انتصر خليل لنفسه لأنه يؤمن بأن للفن رسالة، يقول خليل إن بقائي في نيويورك كانت محض عزلة، لم ألتقِ بفنانين عرب هناك أبدا، فلما أسست مشروع أصيلة شعرت بأنها البوابة التي أخرجتني من ذاك السجن الذي قضيت سنوات عمري بداخله، فكان وقع حلم جميل أن ألتقي بفنانين عرب.. أحتك بهم وأرى كيف يفكرون.

بعد «أصيلة» ذاع صيته في مختلف المحترفات العربية، تلقفته عمان 1992 ثم القاهرة 1994 ثم في منطقة الخليج، إذ احتضنته قاعة روشان للفنون بجدة عام 2002 في معرض حفر وتقنيات وذاكرة أثيرية موغلة في بلاغة طقوسها وخصوبة أسفارها محتفيا بالإسباني خوان ميرو ومتقاطعا مع أدونيس في قاسم مشترك تمثل في حي هارلم الشهير في نيويورك، عرض خليل في جدة مجموعته الموسومة هارلم هو ذات الاسم الذي اختاره أدونيس لقصائده الثلاث التي كتبها في نيويورك، إبان دعوة جامعة برنستون له للتفرغ عام 1999، تكونت أعمال خليل من خمسة أعمال وكراس من الحجم الكبير طرزت عليه إحدى القصائد بحساسية بالغة الرهافة بدت هذه التجربة بين الاثنين ثرّية ومتفردة بفعل العلاقة بينهما منذ زمن مبكر عندما كتب أدونيس عام 1992 مقدمة كراس معرض خليل الذي أقيم في باريس، لكن عندما التقيا في نيويورك التحمت رهافة حساسيتهما معا فكتب أدونيس ثلاث قصائد عن حي هارلم الشهير بنيويورك، استلهم خليل واحدة منها يقول فيها:

وردة سوداء تتكئ على جدار أبيض تسمي نفسها طفولة الحاضر وتريد أن تصبح نورسا ولعل هذه التجربة أثبتت أن ما تجتره ذاكرته التخيلية عن أحوال المدن، كما في مجموعة البتراء التي عرضها في جدة استمرت معه وأنتج منها مجموعات عن مدن عتيقة، مثل فاس ومراكش وخصائصها الموغلة في التقاليد. ولأنه مولع بهذا الإرث فإن ملكته الإبداعية والتقنية تأتي متغيرة وبحلة نابضة بحساسية حفرياته اللونية العفوية المتقشفة والحالكة في العتمة تسبح كركام منثور ومتآكل مر عليه زمن هو دوما لا يبحث إلا على ما يعلق في ذاكرته الإنسانية من شدة انحيازه للماضي والمهمل والمنسي.

التقيت خليل في جدة، أذكر أن واحدة من أشد أعماله إثارة مجموعة الغنائي بوب ديلان التي أستخلص منها مقامات وأناشيد وبقايا ديتو التصقت بشاعريته وكشفت حضور ذاكرته البصرية حتى على الفنون الصوتية النخبوية فيما تتخلل معطياته الجمالية جدران متكلسة وثقوب ونتوءات وانزياحات طبقية وبقايا أشلاء من قطع قماش مبللة وخطوط متقاطعة وأحبار متراشحة ومبعثرة، لا أمل في إعادة ضمادها من جديد.

عام 2006 تعرفت عليه بيروت، وتحديدا في معرضه بقاعة «أجيال» التقته مها سلطان الناقدة اللبنانية التي قالت إن أعمال هذا الفنان مدجّنة بعناصر من التراث الشعبي السوداني ومن الفنون الزخرفية العربية، تأتي كلها من مخزون بصري وانتمائي استذكاري يستعيد من خلاله الموروث ليصوغ منه بعضا من الذكريات المحمّلة بالسمات الأفريقية.

يقول خليل عن نفسه: «كنت فنانا ملونا أكثر منه غرافيكيا، في أميركا، وجدت صعوبة في بيع اللوحة الزيتية لأن ألواني رمادية، رملية باهتة وقتها كان الفنان ستيلا يستخدم ألوان قوس قزح في لوحاته، كل الناس ترغب في هذا النوع من الألوان، وأنا طبيعتي ونفسيتي لا تهضمها، أو لنقل بعبارة أخرى لم أكن مهيئا وقادرا نفسيا على اقتحام هذه المساحة اللونية الصاخبة، وبدلا من الاستمرار في التلوين تحولت صوب الحفر حيث وجدت نفسي أكثر تحررا من قبل».

بالمحصلة، فإن خليل نجح في توليف لوحة تنفتح على كل شيء؛ على الماضي التراثي وحاضر التقنيات الحديثة، وعلى متخيلات بصرية طالما ألحت عليه لتكون مزيجا تكشف قدرته الإبداعية من جهة، وتبني مفهوم الانفتاح على العصر الجديد وعلى التجربة الحرة في استخدامها للتقنيات والوسائط المختلفة.

أخيرا، عاد خليل إلى المنطقة وعرض على جدران قاعة البارح بالبحرين معرضه «جسر بين عالمين»، قدم فيه مجموعة من وحي باولو أوشيلو وأخرى متأثرا بفاس المغربية ومستلهما من محطة هجرته، نيويورك، فيلم «ذا بيرد مان أوف ألكاتراز»، لكن تبقى «معركة سان رومانو» هي الأكثر إثارة، التي طاردت مخيلته وقدم من خلالها ستة أعمال مرهفة ولوحتين دائريتين أو «توندو» كما أطلق عليها، استوحاها من مراكش، المدينة التي يصورها بأسلوبه الخاص لأول مرة، والـ«توندو» هو مصطلح يعني العمل الفني الدائري، والكلمة مشتقة من القاموس الإيطالي.

رحلة فنية طال زمنها ما يزيد على أربعين عاما في المهجر، أما آن أن تستريح؟ يقول محمد عمر خليل أفكر حاليا في الذهاب والاستقرار، إما في المغرب أو في بلد آخر، لكن بالطبع لن تكون هذه المرة أميركا، لأنها تغيرت، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أتمني أن تتحسن الأمور وتسير بالسلاسة التي أخطط لها.

بدأ خليل رحلته الفنية من مدرسة الفنون في الخرطوم (1959) ثم إلى فلورنسا (1963) ومن ثم إلى أميركا حيث درس الفن في جامعة كولومبيا في نيويورك (مدرسة بيرسنز للتصميم ومعهد بريت) ليشارك بعدها في معارض أميركية وأوروبية وبينالات عربية، ثم لتدخل أعماله في مقتنيات أبرز المتاحف الأميركية، من بينها الميتروبوليتان وبروكلين ومكتبة الكونغرس وسواها.